قضايا وآراء

السياسة بين العقل والعاطفة

| بقلم د. بسام أبو عبد الله

لا تبدو لي مناسبة الكتابة عن العقل والعاطفة في السياسة بعيدة جداً عما نواجهه اليوم من تحديات جمّة في مجالات كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وخاصة أننا شعوب عاطفية جداً وطيبة جداً وصعبة المراس جداً. الحقيقة أنني ابن جيل عاش خيبات كثيرة بسبب غلبة العاطفة على العقل في الكثير من المراحل التاريخية التي عشناها، وأتذكر أن أجيال آبائنا عاشت على ذكريات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وعلى خطاباته التي كانت تركز على تجييش العواطف الشعبية، وعلى مرحلة المدّ القومي الصاعد في المنطقة، ولكن إعمال العقل والتحليل المنطقي يجعلاننا نجد أن هناك خيبات كبرى أصابت ذلك الجيل منها: هزيمة حزيران 1967، وقبلها مرحلة الوحدة بين سورية ومصر التي انتهت بالانفصال عام 1961، وكان لها ارتكاسات شعبية كثيرة، واتهامات متبادلة بين البعثيين والناصريين، ولكوننا نتحدث عن الفكر القومي فقد واجه البعثيون إشكالية أخرى تتعلق بالربط بين الأحلام القومية التي تحدث عنها الآباء المؤسسون للبعث، وبين الواقع الصعب والتحديات الواقعية، فالعاطفة تتطلع لدولة قومية واحدة من المحيط إلى الخليج، ولكن العقل والواقع لا يقول ذلك، وهذا ليس معناه التخلي عن الأهداف الكبرى، ولكن لابد من مقاربات فكرية جديدة تجعل تحقيق الأهداف ممكناً، وبطرق أخرى.
أدرك أن طرح هذه القضايا هي إشكالية قابلة للنقاش وصعبة في مقال محدود الكلمات، ولكنها مناسبة للإضاءة على قضية مهمة وحساسة لا يريد أحد التصدي لها بوضوح نظري لأسباب كثيرة، وقد يكون منها أنه لا تزال عاطفتنا تغلب على عقلنا، وسأضرب أمثلة عديدة من واقع الحرب على سورية، تقدم لنا نماذج لإعمال العقل على العاطفة، والتي أسسها في الخطاب السياسي السوري الرئيس بشار الأسد، وأشار إليها في أكثر من مفصل من مفاصل الحرب على سورية.
• موضوع الحرب على سورية: على الرغم من أن عاطفة الرأي العام السوري كانت تتجه للاعتقاد بأن الحرب على سورية قصيرة وسوف تنتهي قريباً، لا بل إن بعض السذج كان يتحدث عن تبويس الشوارب في درعا لتنتهي القضية، لكن الرئيس الأسد حذّر العالم منذ عام 2011 من مخاطر المساس بسورية، وتحدّث عن الفالق الزلزالي الذي سيصيب العالم كله، وعاود الكلام في عام 2013 من أن الحرب على سورية طويلة، وعلينا أن نعد أنفسنا لها، في الوقت الذي كان البعض يقول إن الأمور انتهت لإشباع عاطفة الرأي العام.
ومن ثم كان الرئيس الأسد يعرف تماماً حقيقة الحرب على سورية وأبعادها، ويبني تقديراته وكلامه لشعبه على أساس العقل والمنطق والواقع الحقيقي وليس الافتراضي.
• موضوع المصالحة الوطنية: عندما طرحه الرئيس الأسد لم تكن عواطف الرأي العام السوري متحمسة كثيراً لهذا التوجه، ولكن بعد نجاح هذه التجربة التي خففت آلاماً ودماءً على السوريين جميعاً، أدرك كثيرون أن إعمال العقل في هذه المسألة قضية جوهرية، وأن تغليب العاطفة كان يمكن أن يزيد الدمار والأحقاد، ويحقق مصالح الأعداء.
• مناطق خفض التصعيد: عندما طرح هذا المشروع وجد كثيرون بالرأي العام السوري أنه مضرّ بالمصلحة السورية، ولم يجد هذا الأمر تعاطفاً كبيراً، ولكن مع مرور الوقت وترتيب الأولويات لدى القيادة السورية مع الحلفاء الروس تبين أنها كانت خطوة تكتيكية ذكية جداً وحققت الأهداف المطلوبة، وهنا كان العقل يغلب العاطفة.
• أولويات تحرير الأرض: خلال مراحل الحرب على سورية كان الرأي العام السوري يريد إنهاء وجود الإرهابيين بكبسة زر وبلغة عاطفية جداً، ولكن خطاباً للرئيس الأسد أوضح ما يعانيه الجيش من نقص في الموارد البشرية وفسر لماذا نتقدم في مكان ونتراجع في مكان آخر، وشرح للرأي العام الواقع كما هو، الأمر الذي يوضح كيف يمكن أن نُغلّب العقل على العاطفة والواقع على الخيال، وبالنهاية كيف يمكن الوصول للأهداف بطرق منطقية وواقعية، لا تتسبب بصدمات عاطفية، وتجعلنا نفهم الواقع أكثر ونعمل على تغييره بشكل تدريجي ومنطقي.
• المسألة الدينية: هي المسألة الأكثر خطورة التي كانت تواجهنا، وكانت تحتاج للعقل وليس العاطفة، وتحتاج للحوار وليس المواجهة، ولذلك فإن عقل الرئيس الأسد عمل على معالجتها بهدوء وحكمة وحوار معمّق مع المؤسسة الدينية التي ما من شك كان ولا يزال لها دور وطني مشرّف أحب البعض ذلك أم لم يحب، واحتاج هذا الأمر لحوارات مكثفة كان العقل فيها يغلب على العاطفة، كما في حديث الرئيس الأسد المهم جداً مع رجال الدين في نيسان 2014، وكذلك حديثه في افتتاح المركز الخاص بمكافحة التطرف، حيث حسم جدلاً واسعاً كان يريد البعض منه أن يقسم المجتمع إلى علماني ومتدين، وأن يدفع المتدينين إلى اتجاه لا يخدم الوطن، ويزيد الأعداء بدلاً من زيادة اللحمة الوطنية، اتجاه عاطفي يعتقد أن العلمانية معتقد ديني، وليست ممارسة، وأنها يمكن أن تفرض على الناس فرضاً وهو أمر ليس صحيحاً، إضافة إلى أنه طرح لا يأخذ بالاعتبار الواقع، وليس عاقلاً إن صح التعبير، هنا تمّ تغليب العقل، وليس عاطفة ومزاجات البعض.
باختصار: يقول مؤلف كتاب «قوة الإقناع» هاري ميلز إن العاطفة تتفوق على المنطق، أي العقل، بعدة مزايا منها أن العاطفة تؤدي لتغيير السلوك بشكل أسرع مما يفعل المنطق، وأن العاطفة تتطلب مجهوداً أقل مما يتطلب المنطق، لذلك هي أكثر تأثيراً.
هذا كلام صحيح وواقعي، ولكن لابد من إيجاد التوازن بين العقل والعاطفة لإدارة قضايانا وحل مشكلاتنا، ولم يعد بالإمكان معالجة التحديات بالعواطف والمشاعر، بل لابد من أن نركز على العقل والمنطق للخروج مما نواجهه في المجالات كافة، أي إن العقل يجب أن يقود القافلة في المرحلة القادمة، وأن نخفف المقاربات العاطفية قدر الإمكان، قد يبدو هذا صعباً، ولكني أراه ممراً إجبارياً لنا من أجل سورية المستقبل، سورية الأفضل، سورية القوية والمنيعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن