قضايا وآراء

الـ«ناتو» كلهُ محاصر.. ويبقى جيشنا المنتصر

| فرنسا- فراس عزيز ديب

ما أَحلى الرجوعَ إليهِ، هي أبعدَ من مجردِ خاتمةٍ لإحدى روائع نزار قباني، تحديداً عندما نكون أمامَ عبارةٍ كالكثيرِ من الجملِ العابرة للوقت عندها تصبح الهاءَ عائدة إلى اللـه، أما علامةُ الجرِّ فعائدةٌ إلى نهجٍ اعتادَه أولئكَ المزهوون بجرائمِهم والمجرورون بهزائِمهم، لأنهم لا يعودونَ إليهِ إلا عندَ انكسارِهم وتحولَ دماء الأبرياءِ بينَ أيديهم إلى شرابٍ مقدس لا يختلف عن غيرهِ من الدماءِ المستأجَرة إلا بالطريقةِ أو اتجاهات الله كما يرونها.
ألم يذكّرنا السفاح جورج بوش الابن يوماً أن حربهُ الصليبية في العراق وأفغانستان جاءت بمباركةٍ إلهية؟ ألم يهرَب دونالد ترامب من تقهقرهِ الاقتصادي أمام المارِد الصيني بادعاءِ أنه المختار من السماء لخوضِ تلك الحرب، هل لنا أن نتخيلَ أن الرأسمالية القميئة باتَ لها استثمارات سماوية لا يشبهها إلا صكوك الغفران التي يوزعها دهاة العصر لأغبيائه؟ لماذا يتجاهل الجميع أن ادعاء الحرب المقدسة ليس حكراً على قِطعانِ المتأسلمين وأن الصعود إلى الجنة ليسَ كما الدخول إليها فالثانية حدثت بالموسيقا باختلافِ العلامات الموسيقية أما الأولى فهي تحدث على جثثِ الأبرياء مع اختلاف العمائم النتنة وربطات العنق، ألم يتهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الإسلام بإعادة العالم قروناً إلى الخلف، هل حقاً أن قصفَ الملايين في العراق وأفغانستان وليبيا ومالي هي دفعةٌ عالمية لهذا الكون نحو الأمام؟
بوريس جونسون والذي باتَ يتعاطَى مع نفسهِ كرمزٍ بريطاني ومخلّصٍ احتاجته بريطانيا ليفدي بروحهِ ما تبقى من إرثِ أسوأ إمبراطوريات الاستعباد في العالم، بدا وكأنهُ يُتقن ديبلوماسيةَ الحذاء عندما دخلَ الإليزيه لملاقاة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كيفَ لا وقد حاولَ أن يستلهمَ من شخصِ الزعيم السوفييتي السابق نيكيتا خروتشوف بما قيلَ عن قيامهِ برفعِ الحذاء في الجمعية العمومية للأمم المتحدة احتجاجاً على كلمة مندوب الفلبين يومها، لكن على ماذا أرادَ بوريس جونسون أن يعترض في حضرةِ ماكرون إذا كان الاتحاد الأوروبي بكاملهِ لا يجرؤ على الاعتراض؟! ألم يتحوّل ماكرون ذات نفسهِ إلى مواطنٍ يحمل إحدى تلكَ الجنسيات التي لا يجرؤ مواطنوها على فتحِ أفواههم إلا عند طبيب الأسنان عندما وصفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالغبي؟
ثم أليس هناك من يقول لجونسون بأن الحمقى قد يتمكنونَ من التقليد لكنهم أحطّ من القدرة على التقمص؟ مع فارقٍ بسيط أن الهيبة السوفييتية يومها لم تجهَد لتبرِّير هذا التصرف، فيما لازالت الصحف والمواقع الرسمية الفرنسية والبريطانية تجهدان لاحتواء تلك الحماقة البروتستانتية في وجهِ وريثة أوروبا الكاثوليكية؟ لماذا علينا تجاهل الأبعاد المذهبية للكثير من تصرفات الأوروبيين، أليسوا من حوّل الحديثَ عنا نحن حتى في كرة القدم إلى بطولةٍ مذهبية يتنافس على صدارتها قطباها «السني» و«الشيعي»؟!
لكن العبرة ليست بالتسويغ، العبرة بأن عالماً جديداً يحكمهُ الحمقى هو أفضلَ من عالمٍ يحكمهُ المراؤون، ألسنا متفقين على أن كلمات الشكر لذاك الذي أذلَّ القادمين من خارج التاريخ في مشيخاتِ البترودولار قد لا تفيهِ حقه؟! فمن لا يرى من الغربال أعمى، و من لا يرى تضعضعَ أوربا كنزوعٍ أسرع نحو عالمٍ أكثرَ أمناً هو كمن يصدّق بأن حركةَ التاريخ ستمنع المتمردين على الإنسانية أو المتاجرينَ بها من السقوط في دوامةِ الشرور.
هناك سقوط لا يمكن منعهُ بعدَ تضعضعِ القواعد، هناك حيث يحتضِر الاتحاد الأوروبي بسياساته وجبنهِ كمنظمةٍ يصبح معها أيَّ محاولةٍ للتسويغ أشبهَ بالتكاذب على طريقة «الذئب والحصرم»، فمن لا يطال النبيذ الفرنسي سيقول عنهُ مر، ومن لا يطال تقنية المحركات الألمانية سيقول عنها غير اقتصادية، من هنا يبدأ العالم الجديد بالتشكل، ومن هنا يبدأ العالم القديم بالاحتراق. هل حقاً أن هناك من يصدق أن احتراق غابات الأمازون هو انهيارٌ للعالم من الأطراف تجسيداً لمقولةِ ابن خلدون بأن الدولَ تنهار من الأطراف، من قال إن للعالمِ طرَفاً؟ هذا التسويغ قد يقودنا لأن نصبح قطيعاً وهابياً أو سلفياً يصدِّق بأن الأرض مسطحةً، عندها يصبح الاحتراق فعلياً من الأطراف، ومن أراد حرقه سعى لإصابةِ رئة العالم بانسدادٍ بالأقنية التنفسية تماماً كما انسداد كل أقنية التعقل في هذا العالم، لكن ماذا لو تجاهلنا الأطراف وتحدثنا عن القلب، طالما أن قلب العالم لازال قادراً على الحياة، وحدهُ هذا الشرق لازال قادراً أن يعطي هذا العالم حقنةَ التعقل.
منذ أن أطبقَ شُجعان هذا العصر على ريف حماة الشمالي والريف الجنوبي لإدلب ليحاصروا جندَ الخلافة العثمانية المشؤومة، ارتفعت فاتورة الاتصالات في قصور السلطان العثماني، فسليل الإجرام تباكى أمام القيصر الروسي و تناسى أن الأقوياء لا يعترفونَ بلغةِ الدموع، ثم عادَ واشتكى لذاكَ الشرطي الذي بدأ عملياً الدخول في سن التقاعد، وتجاهل أن دُور العجزة لا تعترِف بقراراتِ من يعيشون جنون العظمة، ليبقى السؤال الأهم بالنسبةِ له بلا جواب:
من قال: إن جُندَ الخلافة وحدَهم محاصرون؟
باختصار الناتو كله محاصر فيما تُقاتل فلولهُ للهروبِ إلى الأمام، من قال: إن سيناريو تحرير حلب لن يتكرر؟ الفرق بسيط أن الناتو في حلب هربَ بأمنياتهِ من عشوائيات «حي الصاخور» باتجاه ما يحويهِ الريف الإدلبي من مقالِعَ وصخور، أرادوا لحجارةِ المعرَّة التي كانت تزين الجدران والمداخل السورية أن تتحول إلى حيطانِ مبكى يبحثونَ لها عن هياكلَ جديدة ليتاجرَ بقدسيتها شذاذِ الآفاق، فحولها الجندي العربي السوري كما كل المناطق التي يدخلها إلى قاعةِ عرشٍ لا يشبهها إلا تلك التي تزينُ قلعةَ حلب تهتز لانتصاراتها ممالك وتحالفات وعروش.
باختصار الناتو كلهُ محاصر، لم ينفع معه حتى الاستعادة المؤقتة لسلطةِ الكنيسة الأوربية البائدة للدخول على الخط الإنساني، من قال إن المجرم أبو محمد الجولاني لم يحظ بمباركةٍ وغطاء بابوي قلّ نظيرهُ، من قال إن التجارة بالدين تختلف عن التجارة بالإنسانية؟
باختصار الناتو كلهُ محاصر، وإن كان هناك من يعتقد بنفسهِ أنه أتقن ديبلوماسية الحذاء، فإن هناك من يجيد حسم المعارك الكبرى معه بالحذاء، وبمعنى آخر: عندما سقط الخان سقطت معهُ أحلام السلطان ليصحَّ بمن ينتظر التحرير عبارة «التمانعة.. وهنَّ راغبات»، والرغبة هنا ليسَت جموحاً نحو المتعة بقدرِ ما هي سياق للاصطفاء الطبيعي، «فمن يُنقذ مَن؟» لم يعد مجردَ سؤالٍ مطروح بل باتَ كغربال البقاء للأقوى، القضية هنا أن دوران الأرض بجنونٍ حول كل هذه الأحداث من حولها جعلها أشبهَ بالاصطفاء بالقوةِ النابذة، وحده من سينجو هو المتمسك بمحورِ الأرض، من قال إن للأرض محاور؟
الأرض لا تعترف بهذه البِدَع، محور هذه الأرض الذي سنستظل بظله هم شجعان هذا العصر فالجميع يتساقط والجميع يتهاوى ويبقى جيشنا المنتصر.. ما أَحلى الرجوعَ إليهِ!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن