قضايا وآراء

السودان في غرفة العناية المشددة

| عبد المنعم علي عيسى

رصد العديد من وكالات الأنباء العالمية مشاهد الفرح العارمة التي سادت الشارع السوداني عموماً في أعقاب أداء أعضاء مجلس السيادة السوداني برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان اليمين الدستورية يوم الثلاثاء الماضي.
لا يرمز ذلك بالتأكيد إلى رؤيا تؤكد انقشاع الضباب الذي لا يزال يخيم على الفضاوات السياسية في السودان إذ لا يزال حتى اليوم هناك المزيد من الوقت اللازم لحدوث ذلك الفعل، وإنما يمكن توصيف تلك الحالة على أنها تعبير عن ضرورة التنفيس لمنع الاحتقان الذي أدى في محطات عديدة ما بين 11 نيسان وأواخر تموز الماضيين إلى تأجيج كانت له أثمانه الباهظة بشرياً وكذا على صعيد تهتك النسيج المجتمعي والسياسي السوداني.
كان شهر تموز السوداني مخاضياً وقد لاحت فيه نذر بوصول الاحتقان إلى مديات أبعد، ولذا فقد سارع طرفا الصراع إلى إيجاد نقاط تلاق مهما بلغت هشاشتها، ففي الرابع منه كان هناك جنين توافق كان من المقرر أن يخرج إلى العلن بعد أربع أيام على ذلك التاريخ، ثم جرى توافق آخر في السابع عشر من الشهر نفسه على أن يخرج إلى العلن بعد يومين، إلا أن كلتا المحاولتين قد فشلتا في اللحظات الأخيرة مما يشير إلى حال من فقدان الثقة كبير، وكذا إلى تمددات إقليمية ذات تأثير طاغ، وربما كان هناك الكثير مما في الأمر ما يدعو إليه، وهو ما أظهرته التطورات فيما بعد، فالمؤسسة العسكرية لا تبدو كياناً واحداً منسجماً وإنما تعيش هي الأخرى صراع محاور ورؤى متباينة بشكل كبير، والأهم هو أن نظام الأجنحة العسكرية كانت له تمدداته في الخارج بما يتجاوز حدود حالة التأثر والتأثير أو وجوب التنسيق بما تقتضيه حالة الجوار.
في 17 تموز زار رئيس هيئة الأركان السودانية الفريق هاشم عبد المطلب أحمد بابكر القاهرة والتقى الرئيس المصري فيها عبد الفتاح السيسي، وبعد سبعة أيام من هذا التاريخ كان قد أضحى رئيس أركان سابقاً في أعقاب اعتقاله بتهمة القيام بانقلاب على المجلس العسكري بمساعدة ضباط أمن واستخبارات وقيادات من حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عهد البشير المعزول.
وفي 28 تموز زار نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد حمدان دقلو «المعروف بحميدتي» القاهرة والتقى فيها أيضاً الرئيس السيسي، جاءت الزيارة بالتزامن مع حدث كبير جرى في «الأبيض» التي شهدت مجزرة كبرى اتهمت قوى الحرية والتغيير قوات التدخل السريع بارتكابها وهي المعروفة بموالاتها المزمنة لحميدتي على الرغم من أنه لم يعد قائداً لها منذ أشهر.
لا يزال اليوم الوقت مبكراً للحكم على ما جرى يوم 21 آب الماضي على أنه انتصار حقيقي للسودان وأنه يستند إلى ركائز صلبة، ولا يزال على الأقل هناك مرحلة اختبار لن تقل مدتها عن الستة أشهر، وهي ستظهر إذا ما كانت التركيبة الجديدة التي خلص إليها السودانيون قادرة على الإتيان بـ«السلام» الذي أجمعوا عليه في إعلانهم الدستوري على أنه أولى الأولويات، وعندها فقط يمكن القول: إن ما جرى هو حدث مفصلي، إذا ما قدر له أن يلقى حسن التمام، ومن ثم يمكن أن يسمى بـ«الوصفة الناجعة» التي ستمكن السودان من تجاوز ارتدادات الزلازل العربية الممتدة إلى ما يقرب العقد من الزمن، لكن وقبيل أن نشهد ذلك اليوم، الذي نتمناه وننتظره، لا بد أن نسجل لقوى الحرية والتغيير حالة نضج فاقت من خلالها نظرائها على امتداد دول «الربيع العربي» فهي لم تذهب نحو حمل السلاح ولا نادت بالتدخل الخارجي على الرغم من نضج ظروف هذا الأخير فيما لو توافر الشرط الداخلي، وعلى الرغم من اختلال ميزان القوى الداخلي فيما بينها وبين دولتها العميقة.
في فترة انتظارنا يمكن لحظ عوامل قلق أبرزها هو طغيان اللكنة العاطفية على خطاب قوى الحرية والتغيير ففي حفل توقيع الوثيقة الدستورية يوم 17 آب قال القيادي في تلك القوى محمد ناجي الأصم معتذراً للمجتمع الدولي عن «غياب السودان طوال ثلاثة عقود» وكأنه الآن مالك لمفاتيح عودته، ثم أضاف: «علينا أن نتفق على العيش بسلام» وكأن العيش بسلام تحكمه الرغبات والآمال والنوايا الحسنة، وقبله كان زميله عمر الدقير في 4 آب قد قال وهو يغالب دموعه: «إن الاتفاق يفتح صفحة جديدة للسودان لإطلاق بناء دولة المؤسسات» ومن المؤكد اليوم هو أن السودان يحتاج إلى الكثير الكثير لكن ليس من بين هذا الكثير الدموع التي تضفي طابعاً رومانسياً غير مستحب على المشهد.
ستة أشهر ستكون عصيبة وأخطر ما فيها هو التحولات التي يمكن أن تشهدها المؤسسة العسكرية غير المستقرة، خصوصاً أن ثمة ملمح يبدو من بعيد في تفكير قيادات وازنة فيها، وهو ينم عن أن تلك الأشهر الستة ستكون، وفق رؤيا تلك القيادات، كفيلة بتليين حماسة الشارع بعد أن تكون قواه قد استكانت لما رأت فيه نصراً لها ولبلادها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن