ثقافة وفن

الحلم الذي عاشه الراحل مسعود بوبو في «الصوت والصدى» .. متى نصبح قادرين على تسخير طاقة العقل للحياة بغير القتل والتدمير؟

| إسماعيل مروة

التقيت مصادفة بشخص أحببته من آل الجزائرلي قبل أكثر من عشرين عاماً في إحدى المكتبات، وكان هذا السيد طريفاً للغاية بحديثه وحركاته وتصرفاته ولباسه، فأنا لم أشهده يوماً بغير اللون الأخضر المزخرف، وبغاية الأناقة، وكان يشير إلى أنه يحب اللون الأخضر لأنه يريحه، ودوماً كان يفلسف الموضوع ببراعة، ولا أكتم أنني اتهمته داخلياً في قدراته، وعرفت فيما بعد أنه أستاذ لمادة الموسيقا منذ عقود، وله مواقف في الحياة لم يغيرها ولم يتنازل عنها، منها أنه أمضى حياته عزباً قارئاً، فما التقيته مرة إلا وكان يحمل كتاباً، وأطرف ما فيه أنه عندما ينتهي من قراءة أي كتاب قد اشتراه يقوم بإهدائه لأحد الموجودين.

وذات يوم قلت له: أين كتابي أنا؟ نظر ملياً وقال: عندي كتاب لا أتوقف عن قراءته، وهو الكتاب الوحيد للكتاب المعاصرين الذي أحتفظ به في مكتبتي، سأعطيك إياه لقراءته، وعندما أحضره كان كتاب (الصوت والصدى) لأستاذي وصديقي الأستاذ الدكتور الراحل مسعود بوبو، والكتاب كان لدي، ولم أكن قد قرأته لصغر حرفه وتواضع إخراجه، لكن هذا الصديق جعلني أحتفظ بنسخته الغالية، وأردت أن أعرف السبب الذي جعل رجلاً مزاجياً مثله يصرّ على الاحتفاظ به، وخاصة أنني عندما قلّبته وجدت خطوطاً ملونة بأقلام فوسفورية من مشتقات الأخضر تغطي جملاً وكلمات وسطوراً!! وحين استعرضتها وجدتها كلها منسجمة مع آراء صديقي التي تلامس الموسيقا وشغف الروح، وها أنذا أعود إلى الكتاب بعد عقدين من الزمن لأقرأ مستذكراً أستاذي الراحل الأستاذ الدكتور مسعود بوبو، الذي جمعتني به علاقة أكثر من طيبة خارج سورية وداخلها، وهو من النادرين الذين لم يتركوا ندوباً في حياة طلابهم وأصدقائهم.

مسعود بوبو والعلم
حدثني أستاذي طويلاً عن مسيرته العلمية الشاقة والشائقة، وعن الناس الذين وقفوا إلى جواره حتى حصّل المكانة اللائقة في العلم والتعليم، وكان واضحاً في حبه لمساعدة الناس كما لقي المساعدة، وفي الجانب العلمي لم يسعف القدر الدكتور بوبو للتصنيف، وآثاره التي اطلعت عليها اقتصرت على تعليمه وحضوري لمناقشات الرسائل العلمية التي كان مشرفاً عليها أو مناقشاً فيها، وفي التصنيف قرأت له كتاباً مهماً في المعرب والدخيل، وكتاباً في فقه اللغة كان مقرراً، وفي فترة متأخرة قرأت له كتابه (الصوت والصدى) إضافة إلى جهوده التي لا تنكر في الموسوعة العربية، وقد كان عملياً فأخرج خلال إدارته العامة لها قسماً كبيراً كان محجوبا بالتردد مع أنه منجز.

الصوت والصدى والعمق
أقف عند الصوت والصدى دون غيره لأسباب عديدة منها أن من السهولة بمكان على اللغوي أن يصنف في اللغة، وعلى الأديب أن يصنف في الأدب المتخصص، لكنه نادراً ما نجد براعة متخصص في مقاربة القضايا العامة، والهموم الإنسانية، وملامسة شغاف الروح والقلب، وهو المتخصص في قضايا لا تقارب الوجدان، ولا تلامسه، فالجاحظ معلم العقل العربي تظهر براعته التأليفية في القضايا العامة مثل البخلاء والرسائل، أما الحيوان والبيان فلا يشكلان مفاجأة كبيرة للقارئ العادي.
في الصوت والصدى ظهر الدكتور بوبو الإنسان المهموم بقضايا الناس، الممتلئ بالوطن والحب، بل ظهر ذلك الأديب المستشرف، القادر على قراءة النتائج كما فعل الشعراء المجلون، وبالاستعانة بما أشار إليه بالألوان صديقي الجزائرلي أقف عند قضايا مهمة في أفكار الأستاذ الدكتور التي تجعله مهموماً بالإنسان غاية الهم، ويعالج هذه الأمور بعمق كبير، وقد يستغرب بعضهم أن الكتاب المطبوع عام 1999 م يتحدث عمّا يحدث في سورية أثناء الحرب عليها وبعمق كبير، وحسبنا أن نقرأ في أي زاوية من الزوايا لنكتشف هذا العمق، وهذه الرؤية الاستشرافية لإنسان متبصر، وها هو يختم كتابه ص466 «وحين يأتونها بجثث الشهداء تصير على حافة السفر، وكان الغائب عنها حين يستعيد صداها يصير على حافة البكاء»، وكانت أول عبارة في كتابه تقول: «أطلّ الدليل من عل: بدت المدينة مرمية في السهل الواطئ كمقبرة». بهذا العمق كانت كتابات الصوت والصدى، وحين تنداح الموسيقا فيها تتكون بجنائزية وأمل نبعا من روح الكاتب المرهف.

للإنسان والأرض
يلامس شغاف القلب في محاورة الأرض والإنسان بصوفية مختلفة ولغة غاية في القدرة على الانسراب في روح المتلقي، ومن دون أن يلقي خطبة عصماء أو غير عصماء، أو أن يرفع لافتة لتدل عليه «المطر في الخارج كالرحمة يهمي يغمغم في صدر الأرض كأغنية قديمة ويصعد صلاة مبتعدة عن كوكب السمع والنظر… سلام لمن تستدفئ صدورهم بالأمانة، لحملة المشاعر النبيلة المترفعة عن الصغار والمغافلة والانتهاز.. التحية لأولئك الذين لم تغادر ذواكرهم لحظة واحدة صور الشهداء الذين قضوا في سبيل هذا الوطن.. لا تنقصهم الحياة، ولا تكفيهم الأغاني..» لغة شفيفة روح آمنة نفتقدها اليوم في كتابات مبدعينا وإعلاميينا، وهذه الكتابات كانت ذات يوم منشورة في الصحافة، ولو تابعنا فإننا لن نجد سوى هذه الأحاسيس العليا، والقراءة لما يمكن أن يكون، ولنقرأ مقطعاً لنعرف أن بوبو يكتب عنا اليوم: «الحلم بيوم آمن، بغد آمن، بأرض ومدن في مأمن من الدمار، من يجرؤ على الحلم بذلك، والخيبات المتلاحقة منقوشة في الذاكرة كالوشم تنغص اليقظة، وتكدر الرؤى والمنام؟ فمتى تبلغ البشرية سن الرشد، وتصبح قادرة على تسخير طاقة العقل للحياة بغير القتل والإفناء..».
ولو أردت أن أقبس من صوته والصدى مفردات الوطن والإنسان لعجزت عن ذلك، فكل ما فيه يدل على روح الدكتور الراحل النبيلة والتائقة إلى حب مختلف «النوارس كالأطفال غافية على سرير من هدهدة الموج، والبحر فراش مخمل أزرق مكتحل بالسواد.. من أول الحروف يبتدي العشق والسفر، يبتدي السهر والبوح، وكثيراً ما يبتدي القتل.. وأنا أصدق كل ما قال النبيذ وربع ما قالته مايا..» وفي سمو روحه يقتبس ما قاله نزار قباني في النبيذ ومايا ليدخل في منعرجات الروح والإنسان.

مسعود بوبو الإنسان
تعرفت إلى أستاذي الدكتور مسعود عام 1987 في مرحلة الدراسات العليا ومن حسن الحظ أنني اخترت الدبلوم اللغوي ليكون الدكتور أستاذ اللغويات وفقه اللغة من أساتذتنا، وأذكر أن عدداً منهم دخل مستعرضاً عضلاته علينا، ليحملنا ما لا نقدر على استيعابه، وربما على جعلنا نترك الدراسة، وهو دخل يومها، وبهدوء شديد استعرض معنا بعض المواد الفقهية اللغوية من فقه اللغة للثعالبي، وطمأننا إلى أن المادة سهلة إذا تعاملنا معها بحب، ومع أن هذه اللقاءات الأولى على كل صعيد مع أستاذي، إلا أننا لم نحتج إلا للدراسة ومراجعته لنتجاوز المادة فاهمين وراغبين في التحصيل.
وبقي الدكتور بوبو غير معني بتفاصيلنا، حتى جمعتني به أروقة إذاعة دمشق، كان يسجل برنامجاً لغوياً خفيف الدم والوقت، وأسجل برنامجين للإذاعة، فتوطدت العلاقة في الممرات وتبادلنا الأحاديث، وزادت أواصر العلاقة متانة، وفي عام 1993 كنت طالباً أعدّ الماجستير في الجامعة اللبنانية، وعرضت عليه المشاركة في مؤتمر هناك بدعوة من الجامعة، وافق أستاذي، وذهبت برفقته ورفقة الروائي الراحل حنا مينه، وكان حضورهما مميزاً ورائعاً علمياً وإنسانياً، وكنت أسجل عدداً من الحلقات المتتالية، فاقترب مني أستاذي وسألني عن السبب، فأخبرته أنني وقعت عقداً مع جامعة الإمارات، وذلك عام 1994 فقال: لا يا بني، فأنا أعلم أنك ستكون في مكان ما، وأعلم ذلك يقيناً، فلا داعي للسفر، ضحكت وقلت له: الأولاد لا ينتظرون أوراق اليانصيب يا أستاذي، وأنا تعودت أن أسير كالقطار وإن جاءت محطة أتوقف فيها وأتابع، وإن لم تأت فإنني لن أحمل حسرتها.. شجعني وغادرت.. وفي الإمارات عملنا على حضور أساتذتنا في أحد المؤتمرات، فحضر من سورية الدكتوران محمود السيد ومسعود بوبو، وقدّما صورة مشرفة للتجربة السورية آنذاك في تعليم اللغة العربية، وذكرّني في زيارته بما كان في آخر لقاء، وقال: أنت على صواب، فقلت له: والآن أستاذي سأعود فقد صار لأولادي بيت. وفي آخر زيارة لي لدمشق، زرت أستاذي في هيئة الموسوعة العربية، وطلبت أن نجلس جلسة خاصة، لكنه كان يبتلع الأدوية ويعتصر بطنه بيده متألماً، ووعدني بأن نخرج في الإجازة القادمة، واكتفينا بهذه الجلسة، لأعلم بعد أيام من سفري برحيل الأستاذ الدكتور مسعود بوبو الذي مرّ في حياتي العلمية والإنسانية غيمة ممطرة بالحب.
الدكتور مسعود بوبو رحل تاركاً إرثه القليل، لكنه الغني بالحلم واللغة والشفافية، ويبقى أن أشير إلى ضرورة أن تقوم هيئة الموسوعة العربية، أو وزارة الثقافة بنشر تراثه القليل، وخاصة الصوت والصدى.. الغني بكل روح، والمفتقر إلى جودة الطبع والإخراج.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن