ثقافة وفن

قسطنطين زريق المفكر العربي في زمن الحلم … اعتمد الأسلوب العلمي الحذر مع العمق في الرؤية والتحليل وصولاً إلى العقلانية في الفهم

| سوسن صيداوي

الوعي والفكر القومي، كي يكون مشرقاً ومنوّراً للآخر، يجب أن تكون له منابع، تضخّ فيه القدرة على التنوع والغِنى مع القوة في الاستمرار. وللنشأة والهوية مع التاريخ جذور تمتد لتعمّق في الأواصر، وتُغني الإدراك، ومنها تصبح النظرة ثاقبة وسابقة، ومتيقظة لكل ما يمكن أن يطرأ من أحداث. ما ذكرناه أعلاه مرتبط بالقامة الكبيرة للباحث والمؤلف الدكتور قسطنطين زريق الذي يعتبر من رواد الفكر القومي العلماني، المتمسك بأصوله والموحد بين التنوع السوري. ولأنه عالم مُستحق، أقيمت برعاية وزارة الثقافة في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، ندوة الأربعاء الثقافية تحت عنوان: «قامات في الفكر والأدب» احتفالاً بقامة قسطنطين زريق أحد رواد الفكر القومي. وتضمنت الندوة التي جاءت بعنوان: «قسطنطين زريق المفكر العربي في زمن الحلم»- والتي أدارها الدكتور إسماعيل مروة- ثلاثة محاور بدأها الدكتور خليل سارة بالحديث عن مميزات زريق وتوجهاته الفكرية في أعماله، ثم المحور الثاني تناول فيه الدكتور حسين جمعة حول منابع الفكر القومي العربي عند قسطنطين زريق، ليختتم الدكتور سليم بركات الندوة بالحديث عن الفكر القومي عند المُحتفى به.

إدارة الندوة
بداية قدّم د. إسماعيل مروة حديثاً مقتضباً لمباشرة الندوة مشيراً إلى امتلاء هذه القامة التاريخية قدرة على التنظير وغنى في الفكر والثقافة ومدّ النظر، فيقول: «قسطنطين زريق الأستاذ والمفكر الكبير، أسمع اسمه، وأقرأ له من المؤلفات. بين عام 1909 وعام2000عاش قسطنطين زريق في دمشق، مولوداً في حيّها بالقيمرية هذا الحي الذي أنجب نزار قباني، ومنه انطلق رجلنا، وما أحب أن أذكره بأن هذه القامة، توجه في مشواره الدراسي في البداية لدراسة الرياضيات، وبعدها قدم دراسات فكرية في القومية العربية، لا تنتمي لأي حزب من الأحزاب وإنما تنتمي للفكر القومي، فهو من الأدمغة القليلة التي كانت مليئة بالفكر والتنظير، ولو التف أحد الأحزاب القومية إليه لكان الأمر عظيماً، لأن جميع أحزابنا تفتقر للمنظرين وللأدمغة التي تصنع هذا الفكر. وأخيراً قسطنطين يُبهر في فكره وتنظيره، ويبهر بعمقه واستقرائه لكل هذه القضايا».
توجهات أعماله الفكرية وكتابه
البداية كانت مع الدكتور خليل سارة الذي تضمن محوره الحديث عن توجهات أعمال قسطنطين الفكرية والحديث عن كتابه: (نحن والتاريخ) مشيراً إلى جعل نفسه تلميذاً افتراضياً لـزريق بسبب الإعجاب الكبير بأبحاثه وأفكاره وثقافته وعلمه في كل مجالات وفنون الحياة في الأدب والفكر والتاريخ، ليقول د. خليل سارة: «لقد أعطتنا قراءاته وتحليله للتاريخ منظوراً إيجابياً على واقعنا العربي وآخر منظوراً سلبياً. كان يحذّر جداً من الإيقاع في هذه السلبيات بكل قوة وشجاعة، وكأنه عاش في زمننا الحاضر. أثارتني الدهشة أن كل ما يعيشه الواقع العربي حالياً من صراعات فكرية وسياسية وقومية ودينية قد أشار إليها عالمنا الجليل في تنبؤاته عن مستقبل العرب، طالما حذرنا منها كثيراً وألا يقع في تلك المطبات التي صنعتها الرجعية والفكر الرجعي والاستعمار المتصهين في تخريب كل ما أنجزناه في الماضي القريب والبعيد». مضيفاً بأن كتاب زريق (نحن والتاريخ) يدور حول هذا المحور المهم، ومن خلال تعمق الأخير في التاريخ والتركيز على دراسته يشعرنا قسطنطين وكأننا نعيش عصر ازدهار الحضارة الإغريقية «وكأن عالمنا الجليل في فكره الإبداعي ودراسته وتحليله العميق للتاريخ، كان أحد عباقرة ذلك العصر المنفتح في حضارته وبنيان مجتمعه وواحداً ممن كانوا يدعون إلى الانتقال من الخرافات وقوانين الآلهة إلى العقل وقوانين العلم، الانتقال إلى مجتمع متجدد تسود فيه المساواة والديمقراطية واللاوعي السليم في دراسة الواقع والمستقبل والاستفادة من دروس التاريخ مع كل ما يتلاءم مع طبيعتنا المعاصرة، أي الانتقال (من الجهل إلى العلم والعقل) كما حدث في عصور الحضارة الإغريقية».
وتحت هذا العنوان تعمق دكتور خليل سارة في كتاب: (نحن والتاريخ) الذي يعالج القضايا الكبرى التي تجابهها الإنسانية اليوم، ويدعو خلاله زريق العرب إلى العودة الأصيلة للتاريخ لفهم العوامل المشتركة لتفادي أسباب النكبات.

منابع الفكر القومي
في حين تحدث الدكتور حسين جمعة تحت عنوان منابع الفكر القومي عند قسطنطين زريق حول ثلاثة مصادر: البيئة والنشأة، امتداد الفكر القومي التاريخي في الشخصية العربية وتجلياته في فكر زريق، التفاعل المعرفي بين العرب والغرب منذ عصر النهضة. مشيراً د. جمعة إلى أن هذه المنابع كانت سبباً في تميّز زريق بالوعي والإتقان ولاسيما ما يتعلق بفكرة العروبة وعلاقتها بالتاريخ والحضارة والإسلام، ثم صلتها بكل ما هو وطني قومي، موضحاً «ولد مؤرخنا في حي القيمرية، وقد تركت هذه البيئة المكانية التاريخية الثقافية والاجتماعية، آثارها العميقة في روحه وعقله، لأنها اتصفت بالانفتاح على الآخر وثقافته مبايناً ومخالفاً، فعززت لديه احترامه وقبول آرائه السياسية والفكرية والدينية وعاداتها وتقاليدها وهو القائل: «(لقد تعاونت أرثوذكسيتي المسالمة المتسامحة وقربي من مواطنيّ المسلمين الذين كنت أصابحهم وأماسيهم -كما يقال- وألتقيهم في حارات المنطقة لمنزلنا وزواريبها، في صَوني من شرور التعصب الديني والطائفي، وإعدادي للاتجاه القومي العلماني الذي اتخذته في سنواتي التالية».
مضيفاً د. حسين جمعة بأن قسطنطين زريق رسم لنفسه الخلود بوصفه مفكراً ومؤرخاً ورائداً من رواد القومية العربية في العصر الحديث بعد المفكر ساطع الحصري، متابعاً بأن فكرة (القومية العربية هي شعور وإرادة واعية قوامها الروابط اللغوية والتاريخية والثقافية والنفسية المتجسدة بالآمال المشتركة بين العرب). ثم اكتسبت طابعها العلمي التقدمي من خلال الشروط التربوية الثقافية التي واجهت التخلف والرجعية، وحين واجهت أعداءها في الخارج كانت تواجه أعداءها في الداخل من أصحاب النزوع الفكري المضاد لها، وخصوصاً أن الفكر القومي نتيجة جهد وكَسب، لا يأتي هبة، ولا يتكون اعتباطاً.
وأخيراً يقول د. جمعة: إن زريق يرى أن الدين جزء لا يتجزأ من التراث العربي وثقافته من خلال إبراز الصورة المبتكرة للتراث وإيجاد علاقة متوازنة بين العروبة والإسلام، فقال: (فقد بلغ أثر الدين كل ناحية من نواحي ثقافتنا العربية؛ ولسنا نستطيع اليوم أن نفهم تراثنا العربي القديم سواء في الفلسفة أم العلم أم الفن إلا بعد درس عميق لنصوص الدين الإسلامي وأحكامه، وتفهّم صحيح روحه ونظامه)».

زريق والفكر القومي العربي
تحت هذا العنوان جاءت مداخلة الدكتور سليم بركات حيث تحدث عن نشأة المُحتفل به زريق وما تناوب عليه من مناصب أثناء حياته، مضيفاً د. بركات: «إن الذين يقرؤون قسطنطين زريق جيداً يعرفون أن الحديث عنه لا يكتمل إلا إذا امتد إلى زريق الإنسان، الباحث والمؤرخ، المربي، والمؤسسي. وهو في كل المجالات د. زريق الإنسان الوطني القومي الذي عُرف بنبله وصدقه ولطافته ووفائه ومعاملته في معابد العلم دون كلل أو ملل، ونحن لا نجانب الحقيقة عندما نشدد على أهمية زريق الإنساني القومي الوطني، لأن في هذا التشدد تأكيد على حقيقة ساطعة وهي محورية الإنسان في هذا الكون على أنه جوهر التاريخ وأصل الحضارة وعماد المجتمع».
مشيراً في ختام حديثه إلى أن د. زريق بالغ الدقة في كتاباته، وفي وزن الكلمة، مبلغ الحقيقة: «إنه يضفي على أسلوبه الحذر العلمي الملتزم بالمعنى، قد لا يوفر لك الطرافة في أسلوبه، ولا في وضوح العبارة وسلامتها، لكنه يتميز بعمقه الفكري ولعل هذا هو الذي يجعل منه داعية مبادئ عقلانية وعلى مستوى من الرفاهية الذهنية أو الثقافية البصيرة». مضيفاً بأنه عند تكريم قامة علمية بحثية مثله نكون قد كرمنا العقل العربي الذي لابد من أن يستفيق ليواكب العصر، ويؤسس لنهضة مقبلة، ويتابع د. حسين جمعة: «نحن نحمّل الأجيال الصاعدة مسؤولية الوعي القومي العربي للخروج من مجتمع التجزئة إلى المجتمع العربي الواحد الموحد، نفعل ذلك ونحن نؤكد أن مساحة دولة فلسطين أكبر من غزة وأريحا، وأن القدس قلب فلسطين وعاصمتها، وهي عربية من البحر إلى النهر، إننا عندما نكرم قسطنطين نتمسك بتحرير كل شبر من أرض العرب، وأخيراً نحن نؤكد بتكريمنا هذا أن دمشق التي أنجبته كانت وستبقى بلاد العرب وقلب العروبة النابض، لن تقبل تزوير التاريخ ولا سرقة التراث، ولن تقبل إسرائيل في دنيا العرب».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن