ثقافة وفن

مسرحيّة «مدينة في ثلاثة فصول» … نص في التشاؤم لا يخلو من البحث في الأمل

عامر فؤاد عامر :

لولا الأمل لكان هناك مشكلة في حياة البشر، وهذه المنظومة التي لربما نعتقدها بسيطة، إلا أنها عظيمة في لحظة عيشنا لها، فمن دون أمل يمكن للمرء أن يستسلم للموت، ولا يرى إلا السواد من الحياة، وبالأمل يمكن للمرء أن يبني ويجد الحلول في أصعب الظروف، وعلى هذه البنى اعتمدت مسرحيّة «مدينة في ثلاثة فصول» التي تذكرنا ببيت الشعر المشهور القادم من لاميّة «الطغرائي»:
أعلل النفس بالآمال أرقبها… ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
«مدينة في ثلاثة فصول» مسرحيّة قُدّمت على خشبة مسرح الحمرا عن نص «احتفال ليلي خاصّ في دريسدن» لـ«مصطفى الحلاج»، اقتبسه الفنان «كفاح الخوص» وأخرجه «عروة العربي»، والمسرحيّة تحمل إيقاعاً لا يبعد كثيراً عن النص الأساسي، فالقبو موجود، والشخصيّات تبحث عن منفذٍ لها، والحرب قائمة في المدينة. وقبل العرض تبدأ أصوات الانفجارات بتهيئة المتلقي لهذا الجو فتكشف المسرحيّة عن ملامحها منذ لحظة دخول المتلقي لقاعة مسرح الحمرا، فهناك أصوات طيارات تحلّق، وانفجارات قادمة من بعيد، وغيرها من المؤثرات السمعيّة التي تهيّئ المشاهد مسبقاً إلى أن رحى الحرب قائمة.

ضبط العرض
امتداد للمنصة المسرحيّة، وخروج عنها في مساحة متقدّمة من الديكور؛ كدلالة لحمل المسرحيّة لما هو غير معتاد وغير مألوف، وهذا ما انتظرناه في العمل، وربما حقق مُخرج العرض ما يتناسب مع هذا الامتداد البسيط، على الرغم من أن المسرحيّة ضُبطت كما أشرت منذ البداية بعاملين أساسيين؛ حددا مسلكها، وهما موسيقا الحرب، وأصوات التفجيرات من جانب، وعدم الخروج عن النص الأصلي إلا في البسيط منه من جانب آخر، وعلى الرغم من ذلك إلا أن المسرحيّة حملت جهوداً تضافرت لتكون عرضاً مشوّقاً يحظى بجمهور يتابعه حتى اللحظة الأخيرة.

باختصار
الحكاية تدور في اجتماع شخوص؛ تُجسّد شرائح مجتمع ما، في قبوٍ أو بالأحرى «بار» مكانه في الأساس تحت الأرض، وسبب اجتماعهم أو حبسهم في هذا المكان، هو اشتعال الحرب في المدينة التي ينتمون إليها فجأة، ولا فرصة للمغامرة بعودتهم إلى بيوتهم مطلقاً، وأثناء اختبائهم تزداد القذائف، والتفجيرات لينهار السقف، ويتهدم البناء، وطريق الخروج من القبو، فيعلق الجميع في بوتقة؛ لتبدأ رحلة البحث فيها عن منفذ للعالم الخارجي، مع معاناة في مكان حشرهم، بسبب اكتشافهم لكثير من الفضائح المرتبطة بأشخاص المكان الذي جمعهم مصادفة.

بين الكآبة وانطلاق الضحكات
الموقف يحمل أبعاداً نفسيّة خطيرة، فأن يلتزم المرء العيش في مكان مع أشخاص يكتشف أنهم خونة! أو باعوا تراب الوطن بحفنة مال! أو يتاجرون برموز تمّ تقديسها طوال سنوات العمر لتأتي الحرب وتشوهها بمساعدة أولئك! أو لحظة وفاة إنسان أمام عينك أياً كان هذا الإنسان! كلّها صدمات حملها جو هذا القبو الذي شكل عبئاً ثقيلاً على المتلقي، والذي شعر بالقرب من محنة أولئك على المسرح عبر ملامسته أحداثاً كثيرة جاءت بها مرويات خمس سنوات في الحرب السوريّة، والأزمة التي فُرضت على مدنها، ولربما سمعنا بقصص أصعب بمرّات ومرّات مما تقدّمه مسرحيّة «مدينة في ثلاثة فصول» اليوم، ولكن من الملاحظات التي لا بدّ من التعليق عليها، هي استعداد جمهور مسرح الحمرا للضحك أمام أي تعليق ساخر من الممكن أن ينطق به أحد ممثلي العرض، وهذه الملاحظة المتكررة، وإن دلّت على شيء، فهي تدل على استعداد الجمهور للهروب من الجوّ الضاغط الذي فرضته المسرحيّة منذ البداية، فالمتلقي يحتاج إلى جرعة من التفاؤل في مثل هذا الوقت الصعب، ولا يحتاج إلى مزيد من الحزن والتشاؤم، وهذا ما علق به العرض قبيل وأثناء العرض باستثناء المشهد الأخير، فجرعة التشاؤم التي احتضنها العرض كانت كبيرة جداً في وقت لا نحتاج إلى مثل هذه الجرعة على الإطلاق.

مشهد الإنقاذ
المشهد الأخير يقلب كفة الميزان التي سار فيها العرض، فهو مشهد يحمل ضحكات، وأحاديث، وأملاً، وتقود المشهد النساء في طريقة التفكير، والطرح، ولكلّ ذلك دلالات واضحة في السخرية من واقع الحال، وفي ولادة أمل، والقوة في وجود حلّ، وبحث عن منفذ لا بدّ من وجوده وكلّهم من عمر الشباب، فهم من يُعتمد عليهم في بناء حياة جديدة، وأمامهم مصابيح تنير لهم الدرب، وخلفهم الشابّ المهندس. وهذا المشهد كان المفاجأة والصدمة للمتلقي لأنه حمل لغة غريبة عن العرض، من التفاؤل، والهدوء، والحماس في التعلّق بالحياة، والتأكد من إيجاد الحلّ.

التنازع بين الواقعيّة والكوميديا السوداء
عن شحن العرض بالكآبة أجابنا الفنان «كفاح الخوص» الذي كتب واقتبس من النص الأساسي، فقال: «الجمهور يجد أماكن يبتسم فيها، وتعلو الضحكات، وهذه الأماكن تندرج تحت مسمى الكوميديا السوداء، ولكن سألت نفسي وأنا أكتب النصّ «هل من المفروض أن نقدّم نصاً كوميدياً خالصاً في مثل هذه الظروف التي نمرّ فيها؟!» لقد آثرت الابتعاد عن هذه الفكرة على الرغم من وجود مفاصل سيضحك فيها المتلقي، وعموماً في المشهد الأخير هناك لحظة حملت 4 شخصيّات على اختلاف وجهات نظرهم، وهي مهمّة جداً، فالجيل القديم مات ولم يعد منه أحد، وذهب بكلّ أخطائه، وبقي الأربعة مع مهندس البناء، وأردت من وجودهم الإشارة إلى الأمل في بناء البلد، والتفاؤل في حياةٍ جديدة قادمة، وكلّ هذا جعلني ابتعد عن التركيز على فكرة الكوميديا في النصّ».

الجديد في العرض
أمّا عن فكرة الخروج عن النصّ وذكر أمثلة يجيبنا الفنان «كفاح الخوص» أيضاً: «لقد أخذنا من النصّ الأساسي الفكرة فقط، فطبقة العمال الكادحة تحاسب التجار، وتحاسب الجنود القدامى، وكذلك الحديثون منهم، والجديد الذي أشرنا إليه كان في متسلقي اليوم على حساب الجيش ورموز الجيش، وكذلك في الإشارة لموضوع الآثار والمتاحف، وأيضاً في قصة المهندس وفي فقدان ذاكرته، كلّ ذلك قصص جديدة ليست متوافرة في النص الأساسي، وهي تهمّنا نحن كسوريين ضمن هذا الظرف».

في بطاقة العمل
حاولنا اللقاء بمخرج العرض «عروة العربي» أكثر من مرّة لكننا لم نحظ بوقتٍ كافٍ يتحدث من خلاله عن العرض ولذلك تم الاتفاق معه على نشر المقال باستثناء رأي منه.
اجتهد الفنانون في تقديم تفاصيل تُشعر المتلقي بأنّهم فعلاً موجودون في القبو، ومحاصرون، وأنّ الإنارة مفقودة، وأنّ الحياة صعبة، وقاسية تحت الأرض، فكثيرٌ من التفاصيل قدّموها بحرفيّة عالية، وهم أجادوا في تجّسيدها بقوة، ولا يمكننا إلا الثناء على ما قدّموا فقد وصفوا المكان والظرف الزماني بصدق، وقوة، ونجاح، والممثلون هم: «يوسف المقبل»، و«محمد خير الجراح»، و«محمود خليلي»، و«كفاح الخوص»، و«مؤيد روميّة»، و«ربى الحلبي»، و«راما عيسى»، و«مي السليم»، و«طارق عبده»، و«سامر الجندي»، و«رغد قصّار». ولا بدّ من التنويه، وذكر أسماء من قدّم جهوده في العمل، ففي الديكور «زهير العربي»، وفي الإضاءة «أدهم سفر»، والأزياء «رؤى خصيروف»، والموسيقا والمؤثرات «رغد قصار»، والمكياج «هشام عرابي»، ومساعد المخرج «محمد بشار»، وتنفيذ الإضاءة «عماد حنوش»، وتنفيذ الصوت «إياد عبد المجيد»، وتنفيذ فني للديكور «ممدوح حسني، وسليم حبش»، ومدير المنصة «سمير أبو عساف»، ومسؤول ملابس «عماد الدين سعيدان». والعمل برعاية وزارة الثقافة، ومديرية المسارح والموسيقا، المسرح القومي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن