قضايا وآراء

إلى أن يهرم الدهر أو يشيخ.. «يجعلها إعمار»

| عبد المنعم علي عيسى

كان الإعلان التركي الأميركي القاضي باتفاق «المنطقة الآمنة» في السابع من آب الماضي سبباً فحسب للعديد من التوترات التي كانت غيومها تتكاثف على امتداد سماوات كل من أنقرة وموسكو، ومن الجائز تشبيه ذلك الإعلان بالنقطة الأخيرة التي استدعت تدفق «الشراب» من الكأس، وهذي الأخيرة وإن ظهرت على أنها المسؤولة عن حدوث الفعل إلا أن تراكم أخواتها السابقات لهن أيضاً المسؤولية نفسها.
الأخوات السابقات هن هنا كثيرات ومن الواضح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد مضى في طريقه الرامي إلى حمل العصا من الوسط فيما بين موسكو وواشنطن في مسار يرمي لدفعها، أي لدفع تلك الأخوات، نحو السطح في محاولة لإحداث التوازن الذي اختل في هذا التاريخ المذكور لمصلحة الأخيرة، لنراه يقف في اليوم نفسه، أي 7 آب وإلى جانبه نظيره الأوكراني فلاديمير زيلنسكي في أنقرة واصفا الوجود الروسي في شبه جزيرة القرم القائم منذ العام 2014 على أنه «احتلال»، والهجوم هنا يهدف إلى دفاع وقائي بوجه «الغضب» الروسي المتوقع الذي كان أردوغان على موعد أكيد معه، فذر الرماد على الجمر بهذي الطريقة التي تكشف ذاتاً تركية تريد أن تقول إن حادثة خسارة مواقعها على البحر الأسود لمصلحة قيصر روسيا الناهضة أيضاً آنذاك «بطرس الأكبر» قبل ثلاثة قرون لا يزال يعتمل في تلك الذات أو هو يلعب دوراً أساسياً في القرارات والسياسات التي تنتهجها، والمؤكد هو أن أردوغان كان مدركاً جيداً أن من الصعب لتصريح كهذا أن يمر من دون رد فعل تحدده احتياجات السياسة الروسية المرحلية، لكن موسكو الغاضبة اختارت أن ينحصر فعلها في سياق إعلامي وهو ما تمظهر عبر مطالبة ذلك السياق أنقرة بـ«تحديد موقعها في السياسة الدولية» ولربما كان حصر تلك الردود في هذا الإطار سابق الذكر بهدف تبين آفاق الموقف التركي وإلى أين يمكن أن يصل في «زئبقيته» التي يصعب التقاطها.
كان تراكم الضباب على طريق موسكو أنقرة هو الذي استدعى زيارة سريعة لأردوغان قام بها إلى موسكو في 27 آب الماضي، وهو لم يستطع الانتظار إلى 16 أيلول الجاري ليلاقي نظيريه الروسي والإيراني خشية أن يصبح «الكريدر» التركي عاجزاً عن إزالة الركام من الطريق إذا ما فاق هذا الأخير قدراته، ولذا لم يذهب إلا وفي جعبته شيء مما يغري به، وما في الجعبة تكشف بعدما زار أردوغان معرضا جويا «ماكس2019» في ضواحي موسكو وفي أعقاب انتهاء زيارته أشار إلى احتمال توريد طائرات سوخوي57 وسوخوي35 الروسية إلى تركيا، وهي خطوة تعني في تراجمها استعداد أردوغان لتعميق مسرب إس 400 بالرغم من أن هذا الفعل الأخير سيدفع بالتأكيد إلى تعميق الخلاف الأميركي التركي بل ستصبح تلاقياته أصعب، وما في الجعبة أيضاً تكشف بعضه في إعلان الرئيس الروسي بوتين في مؤتمره الصحفي الذي أعقب المحادثات وجاء فيه انه سيتم نقل الغاز الروسي إلى أوربا عبر الأراضي التركية.
زيارة أردوغان لموسكو، التي لم تكن مقررة، لم تحسم الخلاف الروسي التركي حول إدلب، وهي أصلاً لم تهدف إلى إنهائه وإنما تهدف إلى تخفيف حدة التوتر في العلاقة مع الروس وتأكيد أولوية التمسك بخيار أستانا الذي يعني بالنسبة لموسكو هامشية الدعوات التي تصدر من الغرب بين الحين والآخر عن إمكان إحياء مسار جنيف الناشط ما بين 2012-2014 لحل الأزمة السورية، لكن من المؤكد أن تلك الزيارة قد كشفت أن موسكو تبدو غير مستعدة اليوم لحرق مراكبها مع أنقرة أو لخلق المزيد من تعقيد العلاقة مع هذي الأخيرة، ومن الممكن اختصار مخرجات ما توصل إليه الرئيسان في هذا اللقاء الأخير عبر تصريحين أطلقهما الرئيس الروسي أولهما أنه اتفق مع نظيره التركي على اتخاذ الترتيبات اللازمة لإزالة بؤر الإرهابيين في منطقة إدلب، وثانيهما أنه يتفهم قلق تركيا في شأن حماية حدودها الجنوبية، وفي تراجم ذينك التصريحين سنجد أن الأول وعلى الرغم من مطاطيتة واحتياجه للمزيد من الإيضاح لوضعه في إطار الفهم الدقيق فإنه يبقى مهما وهو أقله سيعني استمرار العمليات العسكرية في ريف إدلب الجنوبي لحين بسط الجيش السوري على معرة النعمان وسراقب المحطتين المهمتين على طريق «إم5»، بينما الثاني يعني إمكان غض موسكو النظر عن اتفاق إنشاء «المنطقة الآمنة» في الشرق السوري في مقابل وقف أنقرة دعمها لفصائل المعارضة السورية في الشمال، والأمر يعني أشبه بمقايضة أو توافق مرحلي سيكون من الصعب البناء عليه بانتظار ما يمكن أن تفضي إليه قمة أنقرة وهي ستكون الخامسة من نوعها التي ستجمع ثلاثي أستانا الضامن منتصف أيلول الجاري.
من المؤكد أن أردوغان ينظر إلى اتفاق سوتشي مع نظيره الروسي والذي تم التوصل إليه في 17 أيلول 2018 على أنه بات عبئاً ثقيلاً عليه، لكنه الآن لا يستطيع نسفه ولذا فإنه سيسعى إلى ترميمه أو إضافة بعض الزخارف إليه بانتظار أن تلوح أمامه فرصة إمكان جعله من الماضي، وفي الشقوق بات اليوم يستثمر في حالة الاحتياج الأميركي الروسي إليه وهذي الحالة نابعة من تلمسه لاستحالة أي منهما للتفريط بخسارة الدور الذي يؤديه نظامه في هذه المرحلة، والراجح هو أن كليهما يلعب على الوقت بانتظار تكشف نتائج التهتك المستمر الذي يشهده نظام أردوغان وآخر فصوله كان قد تمظهر في استقالة ثلاثة وزراء سابقين من حزب العدالة والتنمية يوم 29 آب الماضي، حالة التمسك هذه بالتأكيد لا تشير أو هي ليست دليلاً على قوة الدور الإقليمي التركي أو تماسكه، بل على العكس من ذلك فقد كشفت لحظة 19 آب الماضي عندما قامت طائرة روسية بقصف الرتل التركي المتقدم نحو خان شيخون قبيل يومين من سقوطها بيد الجيش السوري، كم هو ذلك الدور هش أو أنه يستمد قوته فقط من توافقاته التي يقيمها مع موسكو أو واشنطن، فدوره تنامى ما بعد الثاني من تشرين أول 2011 الذي شهد ولادة «المجلس الوطني السوري» والذي عنى توكيلاً أميركيا لأنقرة بإدارة الملف السوري قبيل أن تعمد واشنطن إلى سحب ذلك التوكيل ومنحه للروس في السابع من أيار 2013 إثر توافق وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري، حيث سيؤدي هذا الحدث الأخير إلى تلاشي الدور التركي بشكل كبير ليدخل طور الانعدام ما بعد عاصفة السوخوي في أيلول 2015 قبيل أن يقرر أردوغان مواجهة التدخل الروسي في سورية ثم لينعطف بعد ثلاثة أسابيع من محاولة الانقلاب الفاشلة عليه في تموز 2016 عبر الاستدارة نحو موسكو التي لا يزال إلى اليوم تحت مظلتها.
في التقييم قد يبدو المشهد السوري شديد التعقيد وملفاته جد متداخلة، لكن الراجح هو أن أردوغان يعيش اليوم حالة استعداد لتكرار ما جرى في حلب 2016 وفي الغوطة 2018 وفي إدلب لكن على مراحل مقابل دعم روسي لمسعى تركي يرمي إلى وأد «الخطر» الكردي في الشرق السوري خصوصاً أن أداء أردوغان يشي بأنه غير مطمئن لمتانة اتفاق «المنطقة الآمنة» الذي عقده مع الأميركيين، ولربما كل ذلك من شأنه أن يزيد من قتامة المشهد، إلا أن ذلك المشهد صحيح فقط لمن يعتمد النظر إلى نصف الكأس الفارغ على أن ذلك هو كامل المشهد، ونظرة أوسع تشمل نصف الكأس الملآن أيضاً ستري أي تحولات كبرى داخلية وإقليمية من شأنها أن تكسب تصريح رئيس الوزراء عماد خميس في حفل افتتاح الدورة الـ61 لمعرض دمشق الدولي يوم 28 من آب الماضي واقعية سياسية فهو قال: «الدورة القادمة للمعرض ستنعقد والعلم السوري يرفرف فوق كل ذرة تراب من سورية»، وقبله بيوم كان محافظ القنيطرة هشام دبيات يعلن عن قرار إعادة إعمار القنيطرة وللأمر هنا رمزية تفوق بكثير معانيه التي تتبدى للمتابع من الوهلة الأولى.
كان مشهد احتفالية معرض دمشق الدولي كرنفاليا يليق بحضارة شعب عريق تمتد جذوره إلى آلاف السنين، وهو يبرز، رغم كل الجراح والآلام، نزعة عميقة في ذاته الجماعية عازمة على النهوض، ويؤكد أن أسطورة طائر الفينيق السوري لم تخلق من العدم وهي لا تزال صالحة إلى اليوم ولسوف تظل كذلك إلى أن يهرم الدهر أو يشيخ.. «يجعلها إعمار».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن