ثقافة وفن

شعاع من الوطن

| محمد عامر مارديني

عام خمسة وتسعين وتسعمئة وألف سنحت الفرصة لي بالمشاركة في دورة تدريبية أقامتها منظمة الصحة العالمية في مدينة غرونينغين الهولندية، حول موضوع ضبط جودة الأدوية وكنت حينذاك الوحيد من سورية إضافة إلى ثلاثين مشاركاً آخرين من بلدان متنوعة حول العالم تمت استضافتهم في سكن الأطباء التابع لمشفى المدينة.
كانت الدورة عظيمة الفائدة إذ بذل المدربون قصارى جهدهم في نقل معارفهم إلى المتدربين ما انعكس إيجاباً على عملي سواء في التدريس أو كمستشار علمي لبعض مصانع الأدوية المحلية كما ساعدت تلك الدورة في بناء علاقات اجتماعية راقية بين المشاركين فيها، والقائمين عليها الذين عملوا جاهدين على توفير سبل الراحة والترفيه كافة وفي جميع الأوقات.
وقبيل آخر أيام الدورة وبعد أن انتهى التدريب الطويل والمضني دخلت غرفتي أستجمع بعضاً من قواي استعداداً لقضاء سهرة طويلة دعت إليها اللجنة المنظمة لتناول العشاء الأخير واستلام شهادات المشاركة للأعضاء.
توجهت إلى السهرة عند الثامنة مساء، وإذ بي ألمح العلم السوري يرفرف وحده خفاقاً على بوابة المطعم، سررت كثيراً وتوقعت أن يفرح مثلي كل الأعضاء لرؤية رايات بلادهم ترفرف في الصالة أيضاً.
قلت في سري: والله إنها لبادرة فائقة اللطف والذوق من هؤلاء الأجانب الذين لا ينسون حتى أدق التفاصيل كي تبقى ذكرى هذا الملتقى محفورة على جدار الذاكرة أبد العمر.
دخلت المطعم الذي كان مظلماً بعض الشيء، إلا من ضوء شموع موزعة هنا وهناك، كان الهدوء والسكون لافتين للانتباه فلا موسيقى ولا قرقعة أطباق، ولا وقع أقدام نادل أو آخر ولا وجود لأحد المشاركين يبدد شكوكي.
أتراني أخطأت المكان؟
وكيف أخطئ مكاناً يرفرف على مدخله علمنا السوري الغالي؟
دخلت بقليل من الحذر ماداً ذراعي إلى الأمام كمن يخشى الاصطدام بعائق ما في درب حالك العتمة، إلى أن وصلت إلى باب كبير جرار، هممت بفتحه فانفتح آلياً، ووجدت أمامي جموع الأصدقاء الذين يتجاوز عددهم الخمسين يصرخون بحماسة: شوووآاا.. شووآااا
رافعين صوراً لفتاة لم أتبين هويتها.
هالني المشهد ولم أدرك معنى كلمة شووآاا ولم أعرف سر الحفاوة التي لا يلقى مثيلها سوى المشاهير من العالم، ولكن يبدو أن أمراً مهماً لا علاقة له حتماً بدخولي شخصياً، دفع أولئك المحتشدين لفعل ما فعلوه.
ثوانٍ معدودة وتلألأت الأنوار في القاعة، واتضح ما أبهم علي في بادئ الأمر، أجل إنها البطلة الرياضية السورية غادة شعاع، تملأ صورها الجدران ويصدح الصوت باسمها في المكان: شوووآاا.
وكيف لا؟ وهي التي رفعت يومها اسم سورية عالياً في بطولة العالم لألعاب القوى في دولة السويد بإحرازها الميدالية الذهبية في مسابقة السباعي، فشدت الأنظار وجذبت الاهتمام، وأكدت مقدرة السوريين على تبوؤ الدرجات الأولى، وحصد الجوائز الكبرى في الرياضة.
دنا مني مدير الدورة مقدماً لي طاقة من الزهور هدية من جميع المشاركين كتهنئة بهذا الإنجاز السوري العظيم.
انتابني شعور بفخر لا يوصف، ورحت أبارك لنفسي أنني من بلد أنجب غادة شعاع.
تجمّع حولي الجميع مبتهجين، راغبين في التقاط صورة تذكارية معي ومن خلفي الأعلام السورية، وكانت لحظة من العمر تحمل بين طياتها كل معاني الإنسانية الرائعة التي تمجد العمل الطيب.
ومن اللافت أن كثيراً من المتجمهرين أخذ يسألني عن وطني سورية، وعن أشياء بسيطة تنم عن جهل أو قلة دراية بهذا البلد العريق، ثم توالت الأسئلة لتأخذ منحى رياضياً عن غادة شعاع وعن سيرة حياتها، وماضيها التعليمي والعائلي، وكانت دهشتهم عارمة حين خذلتني عدم معرفتي الكافية بشعاع فلم أتمكن من الإجابة! في حين يتابع جمهور الرياضة في الغرب، ودول العالم قاطبة أخبار رياضيينا المتميزين.
ألا يستدعي هذا إعادة التفكير في طريقة تعاطينا مع اللامعين والمتميزين من أبناء الوطن في جميع الميادين بما يليق مع إبداعاتهم في المجالات العلمية والثقافية والرياضية على حد سواء؟
ألا يستحقون الدعم المادي والمعنوي الذي يشجع الأجيال الطالعة على السعي لإبراز مواهبهم التي يدركون مسبقاً أنها ستجد المؤازرة والاهتمام على كل الصعد من الجهات المعنية؟
كذلك حري بالإعلام أن يفرد مساحات واسعة من فضائه وأثيره تفوق ما دأب على نشره من مسلسلات وبرامج ممجوجة وفن هابط، ليرقى بالفكر والمواطن والمجتمع عموماً إلى مواقع يميز فيها كل ذي عقل ووعي الغث من السمين، ويأنف عن كل سطحي وفارغ.
تساؤلات.. برسم الإجابة، والوطن الحبيب في الانتظار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن