قضايا وآراء

أقفال «بشتبيه» الصدئة

| سيلفا رزوق

مستعيناً بعنجهيته المعروفة، وبراعته التي يشهد لها باللعب على جميع الحبال السياسية، أكمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مسيرته السياسية المعتادة، دون الانتباه لتصريحاته أمام نواب حزبه، والتي أفرزتها هزيمته المريرة في اسطنبول، حين قال «لا نملك رفاهية غض الطرف وتجاهل الرسائل التي قدمها الناس».
أوهام الرجل العثماني، والذي ظن بأن براعته الشخصية وموهبته في الخداع، وليس الدعم الأميركي، هو من أوصل تركيا إلى حالة النهوض الاقتصادي، التي توجته لنحو 15 عاماً زعيماً مطلقاً عليها، دفعت به للاعتقاد بأن الأتراك يحتاجون اليوم لمزيد من المغامرات الخارجية الحمقاء، لتذهب مراجعات ما بعد هزيمة اسطنبول سريعاً أدراج الرياح.
أردوغان الذي وصلت أحلامه يوماً إلى حدود الصين، يعاني ما يعانيه من نتائج صفرية لجميع الجبهات والخطوط التي فتحها، أو التي تفتح في وجهه اليوم، خصوصاً مع وضع داخلي اقتصادي ضاغط، ومعارضة قوية دخلت مرحلة النهوض، وبدأت بفتح ما تستطيع إليه سبيلاً من ملفات ستشكل إحدى الأوراق الانتخابية الرابحة بعد حين، ومع انشقاقات مستمرة من داخل صفوف حزبه، ومن أحد أبرز المقربين له علي باباجان الذي أعلن عن نيته تشكيل حزب سياسي جديد.
بحث المعارضات التركية عن أوراق ربحية، دفع بملف «اللاجئين السوريين» إلى واجهة النقاش السياسي، وتحول سريعاً إلى شأن عام تركي، بعدما كان أحد العناوين التي استخدمتها جميع الأطراف في الانتخابات البلدية الأخيرة، لينتهي النقاش إلى دعوات من قبل حزب الشعب الجمهوري لعقد مؤتمر أو ورشة عمل كما يروج لها في اسطنبول، دعي إليها شخصيات أكاديمية وحزبية من دمشق وكذلك من أوروبا ودول الجوار التركي، للبحث في الخيارات اللاحقة لحل هذا الملف، والتي ستتيح بالضرورة فتح قنوات من جديد مع الحكومة السورية، وتسهم في تقديم حزب الشعب الجمهوري كحزب تركي قادر على معالجة الهواجس الأوروبية المستمرة من قضية «اللاجئين».
العناوين الداخلية الملحة، لم تكن آخر مصائب أردوغان، بل أسهم السقوط السريع لتحصينات «النصرة» وحلفائها في خان شيخون وجوارها أمام تقدم الجيش السوري، عنواناً ضاغطاً جديداً، أوقف حالة الاستثمار المستمرة لاتفاق «سوتشي» بخصوص مناطق خفض التصعيد، ورسم خطوطاً جغرافية محددة بإطارات زمنية ملزمة التنفيذ بالسياسة أو بالطرق العسكرية، لتكون نتيجة كل هذا حالة غضب عارمة ومطالبات بتنفيذ وعود التدخل لإنقاذ المشروع برمته، وهو ما لن يحصل بفعل تشبيكات «أستانا» وما سيتبع ذلك من اصطدام مباشر مع الضامنين الروسي والإيراني وهو ما لا قدرة لتركيا عليه.
أميركا التي تراقب جيداً ما يجري، والتي ترسل بين الحين والآخر إشارات عدم الرضا عن الاستدارات أو شبه الاستدارات صوب موسكو، ومنها شراء منظومة إس 400، وجدت في الحالة التي يعيشها أردوغان فرصة لتثبيت مخططاتها شرق الفرات، وتم الإعلان عن اتفاق لإنشاء «منطقة آمنة» تحمل في ظاهرها تحقيقاً للكثير من أحلام أردوغان، وفي باطنها تنفيذاً لمخططات أميركية ترضي أدواتها من ميلشيات مسيطرة هناك، وتثبت أمر واقع تتمنى بقاءه لسنوات إضافية.
اللعبة الأميركية التي سرعان ما تكشفت، كشفت حالة غضب تركي عارم، وتهديدات عبثية بتنفيذ «الآمنة» بصورة منفردة، دون الاعتراف بعملية «الخداع» الذي رسمت وخططت بعناية.
كل هذه الجبهات والعناوين، والتي تسبق انعقاد قمة ثلاثية في اسطنبول بعد أيام تجمع رؤساء روسيا وإيران وتركيا، تدفع لطرح الكثير من التساؤلات حول مدى استطاعة الأخير الاستمرار في حالة المقامرة الخاسرة بطبيعة الحال وفقاً لكل المقدمات السابقة.
المعطيات القادمة من أنقرة تشير حتى الآن إلى أن تقديم تنازلات تركية لا يزال غير وارد، بفعل التعويل على هامش مناورة يضيق سريعاً، مع عزم الجيش السوري استكمال مهامه واستعادة كامل أراضيه، لكن مثل هذه التنازلات ربما ستكون شبه حتمية في مرحلة لاحقة، وتدفع بعودة التواصل الأمني السوري التركي الذي كشفت عنه دمشق مؤخراً لكن هذه المرة على خلفية إيجاد حلول للوضع الذي سيفرزه أي تقدم متوقع للجيش السوري شمالاً، ربما على غرار ما جرى جنوباً يوم استعيدت كامل درعا.
الأكيد أن الزمن تغير سريعاً عند حدود القصر الأبيض في «بشتبيه»، والحقيقة الثابتة تقول إن السياسة على الدوام لا تعترف إلا بذاتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن