قضايا وآراء

الطابور السادس

| د. بسام أبو عبد الله

يعرف جميع المتابعين للشأن السياسي والإعلامي مصطلح الطابور الخامس، وهو مصطلح متداول في الأدبيات السياسية والاجتماعية، ونشأ أثناء الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، وأول من أطلق هذا المصطلح الجنرال الإسباني أميليو مولا أحد قادة القوات الزاحفة على مدريد، وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار، فقال حينها الجنرال مولا: إن هناك طابوراً خامساً يعمل مع الوطنيين ولمصلحتهم بمعنى أن لديه أناساً داخل مدريد سوف ينضمون إليه بعد دخول العاصمة.
انتشر هذا المصطلح، واتسع استخدامه خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) واستخدم لكل من يُبدي نزعة، أو ميولاً بعدم إدانة ألمانيا النازية، وكثر الحديث عنه بعد استسلام فرنسا أمام زعيم حزب العمال الألماني الاشتراكي أودلف هتلر عام 1940، حيث مثلت حكومة المارشال بيتين رئيس حكومة فيشي نموذجاً لهذا الطابور الذي أدانه بشدة رئيس الجمهورية الفرنسية السابق شارل ديغول في خطاب شهير له في لندن 18 حزيران 1940 حيث دعا فيه للمقاومة ضد النازية وعملائها.
أصبح المصطلح يضم كل مروجي الإشاعات التي تهدف لإسقاط الأنظمة وخاصة خلال فترة الحرب الباردة، أما شرح المصطلح بشكل أوسع فهو يشمل كل القوى التي تساعد الأعداء على حسم المعارك كإثارة الرعب والفزع وإشاعة الفوضى ونشر الشائعات، ما يؤثر سلباً على تماسك الجبهة الداخلية، ويسهم في انهيار معنويات الخصوم.
تبدو الحرب الفاشية والمستمرة على بلدنا سورية مليئة بنماذج الطابور الخامس منها من كان يقدم معلومات للإرهابيين، إضافة إلى آخرين كانوا يصورون عدوان الطيران الإسرائيلي على مواقع عسكرية سورية ويحتفلون، ونماذج المهزومين ممن كانوا يسمون «منشقين»، وعدد ممن كنا نسميهم «جماعة اللـه يفرج» وكأن الأحداث تجري في موزامبيق إذا لم نُضف إلى كل هؤلاء تجار العملة الذين ينخرون باقتصاد البلد، ويتاجرون بـقوت المواطن الصامد، والحقيقة أنه بغض النظر عن حجم هذا الطابور لكنه كان موجوداً، ولعب دوراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي في إضعاف المعنويات، وإثارة البلبلة في الأزمات المعيشة التي مر بها بلدنا.
ما سبق ذكره يتعلق بالطابور الخامس، لكن مصطلحاً جديداً تحدث عنه منظرون روس اسمه «الطابور السادس»، والرقم هنا، أي ستة، ليس له رمزية، ولكن تم الحديث عنه من أجل التوسع في التحليل السياسي لهذا النموذج، ويقصد بـجماعة الطابور السادس وكلاء التأثير الأطلسيين داخل روسيا الحديثة، ويرى مخترعو هذا المصطلح أنه لا يوجد فرق كبير بين الطابورين الخامس والسادس، لأن لهما مالك واحد ومعيار واحد وأيديولوجية واحدة، تقوم على أن أميركا والحضارة الأوروبية- الأطلسية والليبرالية والعولمة والأوليغارشية المالية هي المرجع لهؤلاء، وهم من حيث يدرون أو لا يدرون يخدمون أجندة هذه القوى.
الطابور السادس حسب تفسير المنظرين الروس هو مؤيد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولروسيا، لكنه في الوقت نفسه مؤيد لليبرالية وموالٍ للغرب، ويريد الاندماج في العالم الغربي، والقيم والمؤسسات الأوروبية، وهؤلاء لا يهاجمون بوتين في كل خطوة وطنية، لكنهم يكبحونه، وفي بعض الأحيان يتوحد الطابوران الخامس والسادس لأنهما جزء من الشبكة نفسها، وهما ضد روسيا وضد بوتين، ويعملان بشكل متسق للإطاحة بـبوتين وحرمان روسيا من سيادتها.
ما أود الوصول إليه هو أن الطابور السادس يبدو ظاهرياً مؤيداً لك، ويشيد ويمدح، لكنه بالسلوك والممارسة يعمل ضدك بطرق غير مكشوفة وعلنية، ويشكل خطورة على أمن البلاد ووحدتها، وقد يكون هو الدود الذي ينخر بهدوء، ويؤدي للنتيجة نفسها التي يقوم بها الطابور الخامس، ولكن بطريقة خفية.
مناسبة كل هذا الحديث هي ما يلي: ماذا نسمي أولئك الذين يتاجرون بالعملة وبالدولار، ويضاربون بها صباح مساء وماذا يمكن أن نُسمي أولئك الذين يُهربون العملة الصعبة خارج البلاد في الوقت الذي لا يزال جيشهم البطل يقاتل بشجاعة قل نظيرها، وأبناء وطنهم يصمدون ويتحملون شظف العيش وصعوباته من أجل الانتصار النهائي؟ وماذا يمكن أن نسمي أولئك الذين يحتكرون المواد الغذائية ويخفونها ويرفعون أسعارها من دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه شعبهم وجيشهم؟ وماذا يمكن أن نُسمي ذلك الفجور الذي نشاهده من البعض في مظاهر البذخ والترف والاستعراض، وعُقَدِ النقص والممارسات الخاطئة من دون أن يرف لهم جفن، ومن دون أن يشعروا أن هناك أناساً شركاء لهم في الوطن لا يمتلكون الحد الأدنى من إمكانات العيش؟ وماذا يمكن أن نسمي أولئك الذين سرقوا أموالاً طائلة كقروض من الدولة ومازالوا يساومون على إعادتها؟
الحقيقة المرة التي يجب أن نعترف بها أنه على الرغم من وجود كثير من التجار والصناعيين ورجال الأعمال الشرفاء، هناك فئة تحولت إلى طابور سادس تريد أن تأخذ وتثري، وتجمع المليارات من دون أدنى إحساس بالمسؤولية الوطنية، وهؤلاء لابد من جعلهم يدفعون الثمن بما في ذلك مصادرة ما يملكون، لأن البعض يبدو لي وكأنه شريك في البيانات التي يصدرها موقع السفارة الأميركية في دمشق، من حيث الممارسة والسلوك المشبوه، وبالتالي عندما يكون قوت أغلبية السوريين الصامدين مهدداً، وواقعهم يتجه من سيئ إلى أسوأ من الناحية الاقتصادية فلابد من اتخاذ الإجراءات العاجلة التي اتخذت ضد الإرهابيين في مرحلة ما، وهؤلاء بالتأكيد طابور خامس وسادس، لابد من محاسبتهم حساباً عسيراً، والأمن الاقتصادي جزء من الأمن الوطني بل جزء أساسي، وإذا اعتقد الطابور السادس هذا ومن يقف خلفه أنهم قادرون عبر الاقتصاد والتضييق على قوت الناس ومستوى دخلهم الوصول إلى ما فشلوا به عبر الإرهاب المستمر منذ سنوات تسع فهم واهمون، لكن على الجهات المختصة التعامل بصرامة وشدة مع أي شخص يتلاعب بالعملة الوطنية أو بـقوت السوريين أو مستوى دخلهم، لأنه لا يجوز أن نترك الأمور بيد طابور سادس ينخر في جسدنا من الداخل ونقف صامتين.
إننا أمام مرحلة حساسة، والمطلوب كما يخطط الأميركيون وحلفاؤهم أن يصل السوريون إلى عام الانتخابات الرئاسية عام 2021، وقد أفلسوا وانهكوا معاشياً واقتصادياً، واستنزفوا، والجسر والأداة لتنفيذ ذلك هو الطابور السادس الموجود بيننا. لذلك لابد من اجتثاثه بهدوء وروية، لأن الأهم من كل هؤلاء هم عامة الشعب السوري، فهم الأصل والاستمرار والديمومة والكرامة، وهذا الطابور السادس يمارس لعبة خطرة لابد من إفشالها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن