قضايا وآراء

«كي لا تغرق السفينة».. لكن ماذا عن آلية الإنقاذ التركية؟!

| عبد المنعم علي عيسى

يمكن النظر إلى السجال الدائر في أوساط «هيئة تحرير الشام» التي تسيطر على غالبية مدينة إدلب وجزء من محيطها على انه قديم – جديد، وهو يمثل مؤشرا دالا على طبيعة الصراع الدائر المحتوي على تلاقيات في أحيان وافتراقات في أخرى فيما محركه الرئيس هو ثالوث السلطة -المال- العقيدة، لكن ما يفاقمه الآن في غضون طبعته الجديدة الراهنة، ويرجح في الآن ذاته تفاقمه لاحقاً، هو ما اقتضته التحولات الهامة في المحيط التي تمثل الضفة التركية جانبها الأبرز منه، ففي أعقاب نشر مقطع مصور لـ«أبو العبد أشداء» قائد كتلة حلب في صفوف «هيئة تحرير الشام» والإداري العام لجيش «عمر بن الخطاب» يوم 9 من أيلول الجاري ردت الهيئة سريعاً عليه ببيان أعلنت فيه فصل هذا الأخير متهمة إياه بـ«خيانة الجهاد وأهدافه».
ما قاله أبو العبد في شريطه الذي أسماه «كي لا تغرق السفينة» كثير لكن أهم ما فيه هو قوله إن «الهيئة» كانت قد استلمت أول تأسيسها مبلغ 100 مليون دولار دون الإفصاح عن الجهة التي قدمت ذلك المبلغ، وللأمر مؤشراته التي تدل على أن المذكور أراد الاحتفاظ ببعض الأوراق وترك الباب موارباً مع الجهات الممولة، وبهذا المبلغ، يضيف أبو العبد، فان الهيئة تصبح أغنى الكيانات التي مرت على تاريخ الحركات الإسلامية منذ قرن.
أهم ما في الأمر ليس في كم المعلومات التي قدمها «أبو العبد أشداء» فهكذا معلومات تكاد تكون في معظمها معروفة أو تؤكدها سياقات الأحداث وإن كان مفيداً أن تصدر هكذا اعترافات على ألسنة أفراد محسوبين على الصف الأول أو هم في الدائرة الضيقة لصناعة القرار، وإنما المهم هو إنها تعبير عن قراءة استباقية نشأت مؤخراً في شرائح وازنة غالبيتها تنتمي لـ«حركة أحرار الشام» وبعض فصائل «فتح الشام» أيضاً، وهذي الشرائح كانت قد قرأت مسار الأحداث منذ سيطرة الجيش السوري على حلب أواخر العام 2016 ومن ثم ولادة مسار أستانا في العام التالي لهذا العام الأخير على أنه ميلان واضح لكفة الدولة السورية على حساب كفة الفصائل المسلحة المعارضة، ولذا فإن الواقعية تقتضي ركب الموجة الجديدة التي استولدها الحدثان سابقاً الذكر، وهذا هو ما مثل فعليا موقف أحرار الشام العام لكن كانت هناك أصوات مهمة فيها كانت قد اختارت التغريد خارج السرب ومن بين هؤلاء أبو العبد أشداء نفسه الذي انشق عن الحركة ملتحقاً حينها، أي أواخر عام 2016، بـ«جبهة النصرة» التي كانت قد غيرت اسمها إلى «فتح الشام» أواخر تموز من عام 2015 في محاولة للخلاص من صبغة الإرهاب التي كانت قد وسمتها بها اللوائح الأميركية والأوروبية وعدد من نظائر لها إقليمية، قبل أن تقرر هذه الأخيرة مع عدد من التنظيمات الأخرى المتطرفة حل نفسها والانضواء تحت راية جسم سياسي- عسكري جديد أطلق عليه اسم «هيئة تحرير الشام» التي أعلن عن ولادتها في كانون ثاني 2017.
دشن حدث تحرير حلب ومسار أستانا صراعاً فكرياً سياسيا ذا امتدادات نفعية أيضاً في أوساط المجموعات التي تنضوي تحت راية «الجهادية السلفية» التي كانت تعاني أصلاً من تباينات كبرى فيما بينها على أساس اختلاف واضح في الإيديولوجيا والنهج لكنها كانت تلتقي في الخط السياسي بفعل «اللاصق» التركي الأمر الذي أجل انفراط عقدها، وقد أظهرت أحداث كانون ثاني 2017 فصاعدا مقدرة أنقرة على فرض سطوتها واثبات نجاعة لاصقها في منع وصول الانفجار إلى حدود خروجه عن السيطرة تماماً، ففي تلك الأحداث شنت «جبهة النصرة» هجوما واسعاً على الفصائل «الجهادية» التي شاركت، أو هي مارست الصمت، في مسار أستانا الوليد آنذاك في محاولة استباقية لمنع نشوء ظاهرة «صحوات» سوريه تماثل نظيرتها العراقية، وعبر هذي الأخيرة كانت الولايات المتحدة قد استطاعت إحداث اختراق مهم في جسد كيان «شورى المجاهدين» وإنشاء كيان ينتمي إلى النسيج «السني» نفسه لكنه كان على النقيض منه في خطه السياسي الجديد، وفي حينها أدى ذلك النجاح عبر إيجاد الموازن المنتمي إلى نفس الرحم إلى أفول «شورى المجاهدين» وانحسار دورها وهو ما تمظهر فيما بعد بقرار تحويل اسم التنظيم إلى «الدولة الإسلامية في العراق» بدءاً من تشرين أول 2016 تحت قيادة أبي مصعب الزرقاوي، ليدخل التنظيم بعد مقتل هذا الأخير مرحلة التلاشي أو الذبول، قبل أن يستطيع الخروج من طور الشرنقة بدءاً من المناخات التي استولدتها رياح «الربيع العربي» على امتداد المنطقة وخصوصاً في سورية والعراق.
يمثل المخاض الذي تعيشه مختلف التنظيمات التي تنضوي تحت راية السلفية الجهادية، والتي يمكن اعتبار تموضع أبو العبد أشداء فصلاً جديداً، لكن هاماً أيضاً، فيها انعكاساً لقراءة لدى شرائح وازنة فيها مفادها أن أنقرة اليوم تعيش حالة كانون أول 2016 في حلب وهي على استعداد تماماً لتكرارها في إدلب، وهو ما يمكن تلمسه عبر مؤشرات عديدة لعل أبرزها هو رميها بثقلها كاملاً باتجاه رسم أطر «المنطقة الآمنة» وفق تصوراتها التي ترجح فرضها عسكرياً والذي قد يضعها أمام تحديات كبيرة في علاقتها مع الأميركيين، وهذا الأمر الأخير يمكن تلمسه في منعكساته داخل أروقة التحولات التركية الداخلية التي سجلت مؤخرا انزياحا في أثقال قادة الصف الأول لصالح وزير الدفاع خلوصي أكار على حساب وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو الأمر الذي لقي اعتراضاً كبيراً في أوساط الجيش وحزب العدالة والتنمية الحاكم أيضاً رصده موقع «المونتيور» الأميركي الذي أشار في تقرير له نشره الأسبوع الماضي إلى «ثورة غضب صامته» حتى الآن تتنامى في أوساط الجيش والحزب تجاه أن يصبح خلوصي أكار هو مهندس السياسة الأول ولربما الأوحد في الملف السوري.
هذه القراءة الأخيرة تمظهرت جلياً في التحركات المتسارعة التي سلكتها الفصائل المسلحة المتمركزة في إدلب ومحيطها فالتقارير الميدانية تقول: إن «هيئة تحرير الشام» وبعد التطورات الميدانية التي أعقبت سيطرة الجيش السوري على خان شيخون وبلدات إستراتيجية في ريف حماة الشمالي سارعت إلى التلاقي مع فلول «جيش العزة» الهاربة من المعارك الأخيرة، والعمل على تجميعها وتوزيعها تحسباً لعمل عسكري واسع قد ينفذه الجيش السوري ويهدف من خلاله إلى تحرير إدلب بالكامل، ولربما ستكون الخطوة التالية القريبة هي في محيط جسر الشغور تمهيداً لاقتحامها، وتضيف تلك التقارير أن هناك جهوداً كبرى في غرفة «وبشر الصابرين» تستهدف إقامة التحصينات وتعزيز خطوط الدفاع بما يضمن صد أي هجوم يبدو قادما لا محالة، والأهم أن الجهود هذه المرة تبدو وكأنها قد وضعت في اعتبارها أن نسبة الآمال في توقع الدعم التركي قد تضاءلت إلى حدود تبدو متلاشية تماماً بفعل التطورات التركية الداخلية وعلاقتها بتطورات الخارجين الإقليمي والدولي.
وسط هذه الخريطة لإحداثيات المواقف والتوازنات الخاصة بمعركة إدلب برز مؤخراً تطور مهم له الكثير من الدلالات، فقد صنفت وزارة الخارجية الأميركية في بيان لها صادر في 10 أيلول الجاري تنظيم «حراس الدين» تنظيماً إرهابياً، في خطوة تعتبر متأخرة فالتنظيم تأسس في شباط من عام 2018 من ائتلاف سبع مجموعات عسكرية هي في غالبيتها كانت تنضوي تحت راية تنظيم القاعدة، والأهم هو أنه كان أول التنظيمات الرافضة لاتفاق سوتشي التركي الروسي حول إدلب أيلول من العام الماضي، والتصنيف الأميركي بالتأكيد خطوة مهمة، أو هي تمثل نقله، في التوافق الأميركي الروسي حول استئصال الإرهاب من آخر معاقله في إدلب، ولربما يزيد من تأكيد هذه الصورة ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عبر صحيفة «ترود» الروسية يوم الجمعة الماضي، لافروف قال: «الحرب في سورية انتهت وما تبقى هو بؤر توتر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن