ثقافة وفن

أنا والحجر طوّعنا بعضنا كي يَخرج وجعي جميلاً … أوديت ديب لـ«الوطـن»: بالنحت أتنفس مع ابني ومع كل منحوتة أنجزها ألِدُه من جديد

| سوسن صيداوي

من صميم المأساة يخرج الإبداع، ويأتي الجمال كي يكفكف نزيف الدماء ويطبّب الجروح، ولكنّ المعادلة الصعبة بأن يكون الحجر هو المحتضن لقهر الشعور ووجع النقمة، ورغم جمود تكوينه نجده المصغي لحوار الجدلية بين الموت وأسبابه، وفي الاختيار الذي لا مناص منه للأشخاص، مع التعوّد على فكرة قبول النصيب والمشيئة المقدّرة. إذاً الدوران يبدأ حول حجر/الأونيكس/ ويدوم في فترات متفاوتة، ما بين الزمن الطويل أو العكس، كي يتم الاتصال أخيراً، ليجد الجمال طريقه في منحوتات شكّلتها بفطرية تامة النحاتة أوديت ديب مديرة المركز الثقافي في مرمريتا، بعد أن واجهت كسائر الأمهات السوريات، الفقد الأقسى.. فقد الضنى.. ابنها «إبراهيم سعادة» عام 2013 الذي أطلق الإرهابيون النار عليه وعلى رفاقه قرب بلدة الحصن، وبعدها كي تجد السلام الداخلي وتتجاوز محنتها لجأت لعالم خاص بها، رافقها فيه كل من الريشة والألوان وأكوام الحجارة، التي كانت ملاذها لتجاوز الألم والاستكانة بوجود ذكريات تؤرّق البال وتضجّ ضربات القلب أنيناً، ومع الإرادة قررت أن تمضي بها عادة وتعمل طوال العام، كي تقيم بما تنجزه من منحوتات معرضاً في يوم ميلاد (بوب)، وعلى عادتها بقيت حتى يومنا هذا، حيث احتضن المركز الوطني للفنون البصرية اثنتين وخمسين منحوتة، كانت خلاصة التواصل بين القلب والحجر. وللمزيد حول المعرض نترككم مع التفاصيل.

رهافة شعور يحتضنها حجر
لم يكن سهلاً على الأم أن تستمر بحياتها من بعد مُصابها، ولكن النحاتة أوديت ديب مسكت الحجر واستمدت منه ثبات القوة لتواجه بالإزميل قبح قسوة الدنيا، ساردة تجربتها وأعمالها التي لم تخطط لعددها، أو تعمل وفق تصور مسبق للشكل الناتج، والحاضر بتنوع ما بين التجريدي والواقعي لأجسام كائنات حية، وتقول: «أنا في كثير من الأحيان أدور حول الحجر، وربما لساعة من الزمن أو أبقى ألتف وأدور للعديد من الأيام، حتى أصل إلى نقطة التواصل بيني وبين هذه المادة الصلبة، وهنا أعرف ما أريد، وأمسك إزميلي وأبدأ بالعمل، كي أنتهي من المنحوتة-في أحيان-بيوم واحد».
وعن حجر /الأونيكس/ واختياره بالذات من بين المواد، لفتت ديب إلى أنه يوحي لها بما تريد من خلال خطوطه التي تبادلها الحديث والخيال وحتى العاطفة، وبالرغم مما يقال عن قساوته فهي تجده مطواعاً جداً. وعن استخدامها لمواد أخرى كالخشب أو الطين لفتت: «الجدل بيني وبين الحجر لا أجده مع الطين الذي يسهل تشكيله بعكس الحجر ولكن هذا لا يُلغي من شفافية كل من المادتين، وبالمناسبة أحب هنا أن أشير إلى نقطة مهمة، لا يمكنني أن أعمل بالخشب، فهناك عاطفة قوية تربطني مع الشجرة، ولا أتصور نفسي أمسك إزميلاً أو صاروخاً كي أقطع جذعها».
هذا وعن كون أوديت ديب غير أكاديمية ولم تدرس الفن التشكيلي، تعبّر عن تجاربها بثقة مليئة بحب الحياة وشغف التعلّم واكتساب المهارات قائلة: «أنا لست فنانة تشكيلية، ولكن بعد وفاة ابني لجأت للريشة والألوان وإلى تطويع الحجر، هاربة من قسوة وبشاعة حُكم الواقع، متوجهة نحو الجمال، وهنا أؤكد بأنني لست بصدد أن أطرح نفسي كمنافسة بين التشكيليين، فأنا أنحت أو أرسم كي أعبّر عما بداخلي ولأعالج نفسي، هذا كما أنني أستفيد من خبرات الأساتذة في الساحة، وأقرأ كثيراً وأشاهد وأتابع الكثير من الأعمال للنحاتين السوريين والعرب وحتى الأجانب.
ورسالتي هي أننا بالفن نستطيع أن ننجو من كل ما يحصل معنا، ويمكننا أن نزيل كل الشوائب التي تشبه الطين والوحل المحيط بالحجر الذي أقوم بتنظيفه قبل البدء بعملية النحت الأخير الذي ترجح كفة جماله على كفة البشاعة، فأنا طوّعت الحجر وهو طوعني، ومن خلاله أشعر أنني أتنفس مع ابني وألده من جديد مع كل منحوتة جديدة».
وختمت حديثها بأنها في كل سنة تقيم معرضاً واحداً في ذكرى عيد ميلاد ابنها، كانت البداية في حمص ومشتى الحلو ومدن عدة: «هذه السنة أقمته في دمشق، وبالمناسبة أنا أشكر المركز الوطني لمنحي هذه الفرصة، لأنني أشعر بأن المنحوتات بأيد أمينة وأشكرهم على طريقة العرض المميزة».

الموهبة أصلاً..
لو لم تكن أكاديمية
على حين تحدث الدكتور غياث الأخرس رئيس مجلس إدارة مركز الفنون البصرية عن ألم التجربة الذي تعرضت له النحاتة ديب، داعياً إلى اللجوء للموسيقا والفنون لتكوين فكر جديد يمحو كل ما تركته الحرب من رواسب نفسية مؤلمة ومدمرة فكرياً وأخلاقياً، وعن تجربتها النحتية يضيف: «أوديت رسامة بالأصل، تركت الرسم لتقاوم هذه التراجيدية التي عاشتها، فبدأت النحت بالحجر، وهذا ليس معرضها الأول، ونحن وجهنا الدعوة لها لإقامة معرضها في المركز الوطني، حيث قدمت اثنتين وخمسين منحوتة مميزة- وأنا أتكلم من ناحية إنسانية- ولكل منحوتة قصة عاطفية ونفسية خاصة، هذا عدا أنها نحاتة لا تكرر نفسها في الأعمال، وأشير أيضاً إلى أن صدق شخصيتها طاغ على صدق المهنة، الأخير الذي يكرر شخصية الفنان في أعماله، على حين في المعرض نرى كل قطعة فيها حالة نفسية وعاطفية.
وعن طريقة عرض المنحوتات أكد الأخرس أنها تؤثر سلبا أو إيجابا في العمل، لافتاً إلى أنه تم عرض المنحوتات بطريقة مميزة جداً كي لا تفقد من قيمتها.
مشدداً في الختام على احتواء المركز للمواهب الشابة حتى لو لم تكن أكاديمية «المركز الوطني راعٍ ومحتضن لكل المواهب الشابة، ويسعى لتقديم الفرصة لكل من هو جاد، سواء بالفن التشكيلي أم الموسيقا». مبيناً أنه في خطة عمل المركز للفترة القادمة ستقام معارض لفنانين من محافظات عدة، إضافة إلى إقامة معرض خاص لفنانين عراقيين مطلع العام القادم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن