قضايا وآراء

إقالة بولتون وسقوط الإستراتيجية الأميركية

| فارس الجيرودي

على النقيض من التغطية الصاخبة التي حظي بها خبر توليه لمنصبه، تعاملت معظم وسائل الإعلام العربية والغربية مع خبر إقالة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون مؤخراً، دون اكتراث يكافئ أهمية الحدث المتأتية من حساسية المنصب من جهة، ومن طبيعة الشخص الذي شغل المنصب، إضافة إلى الأجواء التي اتخذ خلالها الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرار إسناد الوظيفة الحساسة له قبل عام ونصف العام، ومن ثم ظروف إقالته اليوم التي تشبه عملية الطرد من العمل.
بل إن بعض التحليلات الإعلامية المغرقة في استهانتها بذكاء المتلقي أرجعت قرار ترامب الأخير بخصوص بولتون إلى خلاف في وجهات النظر التي شابت العلاقة بين الرجلين، وكأن توجهات بولتون المتطرفة تجاه ملفات السياسة الخارجية الأميركية، ودوره كأحد أعضاء الفريق الذي حرض على حربي العراق 2003 وتموز 2006 كانت أموراً مجهولةً لترامب عندما اتخذ قرار توليته ما سبق أن تولته أسماء لامعة في التاريخ السياسي الأميركي مثل مستشار الأمن القومي هنري كسينجر بين عامي 1969-1973، ومستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي بين 1977-1981، وكأن اختيار ترامب لبولتون لم يكن ضمن سياق التصعيد والتهويل الذي حاول المضي به في مواجهة خصوم الولايات المتحدة حول العالم من بكين إلى طهران إلى كراكاس، وذلك إثر موجة الاتهامات الداخلية له بالضعف وبمحاباة موسكو بعد دخوله البيت الأبيض.
بالنظر إلى شخصية ترامب النرجسية، وإلى الصلاحيات التي يعطيها الدستور الأميركي للرئيس فيما يخص اختيار مستشاره لشؤون الأمن القومي وإمكانية إقالته من دون الحاجة للرجوع للكونغرس، فإننا لا نحتاج لكثير من التفكير حتى نستنتج أن ترامب جلس مع بولتون طويلاً قبل عام ونصف العام مستمعاً لتقييماته لوضع خصوم واشنطن الدوليين، ولما يمكن الحصول عليه من تنازلات عبر الضغط عليهم باستخدام سلاح الحرب المالية، وتكتيكات دعم المعارضة، ومحاولة قضم الهيبة عبر التحرش العسكري المنخفض المستوى، من دون الوصول بالتأكيد إلى خيار المواجهة العسكرية الشاملة، الذي كان مستبعداً تماماً من ترامب كما أعلن خلال حملته الانتخابية، ومستبعداً قبل ذلك من المؤسسة العسكرية الأميركية، التي أعلمت الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في بداية ولايته الثانية أن الجيش الأميركي غير قادر على تكرار مغامرة عسكرية جديدة بعد تجربتي العراق وأفغانستان المكلفتين، اللتين قدر البنتاغون أن الولايات المتحدة بحاجة لعشرين عاماً على الأقل قبل التعافي من آثارهما الكارثية.
بالنسبة لمنطقتنا اصطدمت وعود بولتون لترامب، مثل ابتزاز التنازلات من محور المقاومة عبر الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران وبتطبيق الحزم المتتالية من العقوبات ومحاولات الخنق الاقتصادي بحق أطراف المحور، اصطدمت بقرار مضاد من المحور بالرد في الساحة التي يمتلك التفوق فيها، وهي ساحة الميدان العسكري، وذلك عبر ضرب عصب الاقتصاد الرأسمالي الغربي والمتمثل في صناعة النفط السعودي، التي تلقت خلال الأشهر الماضية جملة من الصفعات لم يسبق أن سجل التاريخ لها مثيلاً، خلال كل الصراعات التي خاضتها السعودية في المنطقة خدمة لمصالح السيد الأميركي، لتثبت هذه العمليات التي نفذت بأيدي الشعب اليمني المظلوم، القدرة التكنولوجية المتقدمة التي بات محور المقاومة يتمتع بها، في مواجهة أحدث أنظمة الدفاع الجوي الأميركية التي ابتاعتها السعودية لكنها لم تفلح في حماية الأنابيب الإستراتيجية بين آبار النفط وميناء ينبع على البحر الأحمر، وهي السبيل الوحيد لتصدير النفط السعودي في حال أغلقت إيران مضيق هرمز، وحتى في حماية عاصمة منشآت صناعة النفط السعودية المتمثلة في مجمع آرامكو في «بقيق».
على التوازي مع ذلك واجهت إيران محاولات التحرش العسكري من الولايات المتحدة وحلفائها، بعمليتي إسقاط الطائرة المسيرة الأميركية واحتجاز ناقلة النفط البريطانية التي أفرج عن ستة من بحارتها مقابل الإفراج عن ناقلة النفط الإيرانية التي كانت محتجزة في جبل طارق قبل أن تواصل تحركها، على حين بقيت الناقلة البريطانية محتجزة لليوم، لتشكل العمليتان قضماً إضافياً للهيبة العسكرية الأميركية في المنطقة.
كما لم تؤد مناشدات ترامب المتتالية عبر «تويتر» مدعومةً بقانون العقوبات بحق سورية المعروف باسم «سيزر»، إلى ثني الدولة السورية عن متابعة عملياتها لتحرير الجيب السوري الأخير، الذي لا تزال الجماعات الإرهابية المدعومة من المخابرات الغربية تسيطر عليه في إدلب ولو على مراحل.
ثم لم تنتج الاستعانة بالاحتياطي العسكري الأخير لدى المحور الأميركي والمتمثل بإسرائيل، أي تغيير في معادلات القوى، بل أدت وبشكل معاكس إلى إثبات محدودية تأثير الدور العسكري الإسرائيلي، مع تلقي الجيش الصهيوني للصفعة الأخيرة من حزب اللـه في قاعدة أفيفيم العسكرية الإسرائيلية، والاكتفاء بإخلاء القاعدة كرد على عملية حزب اللـه، حيث راقب العالم في مشهدٍ ذي دلالة، مراسلة قناة «روسيا اليوم» تتجول بحرية في القاعدة العسكرية الإسرائيلية الخالية تماماً بعد فرار الجنود الإسرائيليين منها، ليقدم ذلك برهاناً جديداً على مقولة «أوهن من بيت العنكبوت».
لقد وقف بولتون في حزيران عام 2018 أمام وفد من المعارضة الإيرانية ليبشر المعارضين الإيرانيين بأن الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، والعقوبات الاقتصادية الأميركية القادمة ضدها، ستؤديان إلى إسقاط النظام الإيراني خلال عام واحد فقط، لكن بولتون اضطر بعد عام وبضعة أشهر من تلك الواقعة إلى مغادرة منصبه فيما يشبه عملية الطرد، بينما انتقل ترامب نفسه من لهجة التصعيد والوعيد تجاه طهران إلى ما يشبه توسل لقاء قمة مع الرئيس الإيراني حسن روحاني من دون شروط مسبقة.
يساعدنا حال التخبط الأميركي بين التصعيد والتهديد تارةً وتوسل التفاوض تارةً أخرى، في الإجابة عن السؤال المحير: ما الإستراتيجية الأميركية في منطقتنا والعالم؟ فمن الواضح أن واشنطن لا تمتلك أي إستراتيجية واضحة بديلة بعد سقوط إستراتيجيتها القديمة إثر إخفاق رهاناتها في حروب أفغانستان والعراق ولبنان وسورية واليمن، يعود ذلك لعجزها عن تحمل كلفة وأعباء خوض مواجهة عسكرية مباشرة جديدة من جهة، وعجزها من جهة أخرى عن التواضع والتخلي عن أهدافها التسلطية والتنازل عن دور شرطي العالم، حيث باتت غير قادرة على ممارسته عملياً، وذلك من أجل التوصل إلى تسوية عقلانية في منتصف الطريق مع خصومها الذين يبدون أقوى منها داخل أوطانهم وفي مجالهم الإقليمي والحيوي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن