ثقافة وفن

جماليات السردي والبصري في عمل الممثل المسرحي- التمثيل السوري نموذجاً … د. جواد الأسدي: مهنيتي الحقيقية كمخرج مسرحي تأسست في سورية

| جُمان بركات

شغفه الحقيقي هو الإخراج المسرحي، والدخول إلى التمرين ومقاسمة الممثلين هذا الرغيف، والشراكة تجعل الانتصار على الخسارة حتمياً، وهو المعيار الأكبر ويمكن القول إنها الوصفة السحرية.
في سفر المخرج المسرحي د. جواد الأسدي الدائم والأبدي هناك نص في حقيبته يحميه ويتقاسم معه حياة السفر، هو مسكون برغبة الرحيل وبنار تغيير الأمكنة، يندم لأنه بلا عائلة، أولاده بعيدون عنه، والعراق أيضاً، وأصدقاؤه الذين يحبهم ليسوا في متناول مقاسمته أي لحظة، لذلك إحساسه بوحشة الندم حقيقية. ليس مدير مسرح ناجحاً، لم يكن القرار بيده لإنتاج أعماله المسرحية والاشتغال على الشعور المسرحي، هذا يزعجه كثيراً لأن المؤسسات الإنتاجية العربية تحولت إلى مؤسسة فيها الكثير من الضحالة ولا فرق معها بين اسم مخرج خلّاق وكبير ومهم أو مخرج قليل القيمة والأهمية.

إحياء المسرح ورقياً
«مسرح النور المرّ» كتاب يحكي يوميات الأسدي مع الحياة والسفر والعراق ومع الدول العربية، تقريباً هو موضوع اختزال لعشرين عاماً من الاحتراف مع الممثلين المتنورين والمتفاوتين في مواهبهم، كيف تصنع داخل التمرين هذه الحياة التي تحلم بها الحياة المسكوت عنها، وفي حواراتي أقول: «الحياة قبل الدخول إلى التمرين شيء، وما بعد التمرين المسرحي شيء آخر». في الوطن العربي ليس هناك مخرجون يسجلون عروضهم، وعلاقتهم مع الممثلين هي فكرة أوروبية بالأساس، فالشريط السينمائي يبقى أبدياً تستعيده في أي وقت، لكن في المسرح يذهب الممثل إلى الحياة وربما إلى الموت والنسيان. الكتاب هو محاولة لإبقاء المسرح حياً، إنه النور الأكثر مرارة من حلاوة الصعود إلى قمة النجاحات، في احتفالات المسرح التي تنوب عنها احتفالات الموتى في كتاب الأساطير، حيث لم يعد للشعر والميثولوجيا الكونية معنى بالمقارنة مع العمى والجهل المرمي على قلوبنا.
يقول جواد الأسدي: وصل المسرح في الدول العربية إلى حدود كارثية وحالة من التفكك والانحسار والهزيمة الكبرى، وفي الندوة التي أقيمت في مكتبة الأسد بعنوان «جماليات السردي والبصري في عمل الممثل المسرحي- التمثيل السوري نموذجاً» سلط د. جواد الأسدي الضوء على جحيم ما يجري من الانهيارات والتصدعات، وقدم الإعلامي ملهم الصالح المخرج العراقي بالقول: في كل حوار يقدم المسرحي المتوهج ما يثير الجدل والنقاش وما يفتح نوافذ جديدة في الفكر والوعي، في زمن أحوج ما نكون به لإعادة الاعتبار لكل ما يخاطب العقل وينهض بالإنسان عن لغة العصبيات والغرائز بأنواعها، لكن للأسف بدل أن نشهد ولادة منابر ثقافية ومسارح جديدة يحمل ضيفنا خشبة أحلامه ليعود مسرحياً جوالاً بين العواصم والمدن، عن دور الفن والثقافة في إعلاء شأن الحياة وقضايا أخرى نحاور المسرحي الأكاديمي.

سر المهنة في دمشق
في البداية، تحدث عن المدينة التي عشقها وسكن فيها، وقال: هناك حيرة كبيرة أن يبتعد الإنسان عن مدينة يحبها كثيراً ويعشقها، مدينة جمال وحياة وسخاء، أن يصبح بعيداً منها قسراً وجبراً، بعيداً بالمعنى أن الريح والأهواء وتفاصيل الحياة ترميك دائماً إلى مدن أخرى، ولكن تبقى على أقل تقدير دمشق هي كانت ولا تزال الحاضنة الجمالية.
كيف كانت دمشق يوماً من الأيام؟ ما يوميات الجنة والجمال قبل سنوات طويلة؟ كان المعهد المسرحي في دمر القديمة عبارة عن بيت صغير، تُنسج الحياة في داخله حياة ممتلئة بالسحر والجمال، كانت أيام تنوير حقيقية، فيها أساتذة كبار مثل سعيد مراد، سعد اللـه ونوس، فواز الساجر ومجموعة كبيرة من الأصدقاء الذين شكلوا سحر وجمال المدينة.
في ذلك الوقت، أتيت للمضي والعيش في المغرب لإقامة مسرح هناك، وبالمصادفة الحياتية اليومية على الرصيف رأيت ممدوح عدوان، وقال بحب ومودة وسخرية «وين رايح يازلمة»، «ماذا ستفعل في المغرب» «واحد عراقي مدمر يذهب إلى المغرب» لن أدعك تذهب، وكان كمن يتآمر مؤامرة جميلة وساحرة، وفي اليوم التالي كان موعدي مع اتحاد العمال: وفيق الزعيم وندى الحمصي ونجاح العبد اللـه وصبحي الرفاعي، أنا لم أكن أعرفهم من قبل ولكن ممدوح عندما أخذ التفويض من رئيس الاتحاد كان لقائي معهم، واتفقنا على إخراج عمل، وقلت لممدوح لقد ورطتني ورطة كبيرة، ومع الأيام اكتشفت أنها أجمل ورطة في حياتي لأنه أبقاني في دمشق. في الواقع، مهنيتي الحقيقية كمخرج مسرحي تأسست في سورية.

فاتحة الحياة
تابع د. الأسدي: بدأنا العمل الأول بعنوان «الحفارة» مع بسام كوسا وندى الحمصي وسليم تركماني وصبحي الرفاعي، عملنا يومياً لمدة خمسة أشهر، وعرض «الحفارة» سحبني بشكل مطلق للبقاء في دمشق، وبعدها قدمنا مع الاتحاد عروضاً أخرى مثل «ماريا بنيدا» و«حكاية زهرة» و«الاستثناء والقاعدة» وكانت هذه العائلة الجميلة والمقاتلة تأتي إلى البروفا وكأنهم آتون إلى الصلاة، وإلى لعبة بها الكثير من المغامرة والقسوة والعمل اليومي، هذه كانت فاتحة الحياة مع دمشق.
تعرفت إلى الكثير من الأصدقاء، وبعدها سافرت إلى بلغاريا وعدت لتخريج دفعة طلاب السنة الرابعة وقدمنا مسرحية «رأس المملوك جابر» و«يرما» ولكن الشيء المهم في علاقتي مع المعهد المسرحي أنني ذهبت إلى منطقة أخرى من العمل، منطقة جديدة بها حيوية طلاب شباب لديهم الكثير من المشاكسات والآمال والرغبات، وفي تلك الفترة كان هناك أساتذة كبار وخطيرون مثل سعد اللـه ونوس وحنان قصاب حسن وفواز الساجر عرفوا كيف يصنعون ممثلاً جديداً لديه قوة حضور وخيال مذهل وإمكانيات رهيبة.

بروفا مقدسة
وعن البروفات قال: لم تكن التمارين قبل العرض عادية وإنما كانت عبارة عن حياة مملوءة بالجمال، الممثلون كالقديسين، يدخلون إلى التمرين متناسين حياتهم وعلاقتهم مع الأشياء يتوحدون مع التمرين لحد الجنون، وأعتقد أن هذا السر الذي جعل الممثل السوري يحتل مكانة في الدراما والسينما العربية العالمية، وهذا أساس لذتي الشخصية للاستمرار في العمل في دمشق.

صيد النص
وتابع مخرج «حمام بغدادي»: أُسس مناخ متفجر داخل العروض المسرحية، وهو مؤشر إلى فكرة مهمة في العنوان الذي اخترته في السردي والبصري، بمعنى أن فكرة السردي تقتضي كيفية العمل على حساسية النص واختياره وكيفية العمل معه. كانت فكرة اصطياد النص تنمو مع الحياة اليومية في علاقتي مع الممثلين، ولا أختار النص بشكل عفوي بهدف المغامرة وإنما أختاره بناء على أساسات: علاقة النص بالمجتمع؟ وماذا يريد القول للناس؟ ماذا يفعل النص بهم؟ ومن الممثلون الذين سيتحملون هذا السرد والسحر والرسالة؟. في الواقع، يتكوّن العنصر البصري من التدريب اليومي والنص، أما السينوغرافيا وجماليات الديكور فتنمو وتزهر من داخل النص السردي ويأتي دور الممثل في لعب دوره باحترافية.

فلسطين حاضرة
وعن المسرح الفلسطيني قال المخرج العراقي: في دمشق، كان ما يثير اهتمامي هو ذلك النسيج الساحر بين الممثل السوري والفلسطيني الذي تأسس بقوة، وكان المسرح الفلسطيني حاضراً في حياتنا اليومية، وقُدمت فلسطين للناس بجماليات ثقافية ومسرحية عالية عبر السوريين وليس بالخطابات، وهذا سر عظيم أن تُعشق فلسطين بروح أخرى، وتجسد ذلك في مسرحية «الاغتصاب» ومسرحيات أخرى.

تعدد ثقافات
وعن فكرة العمل مع ممثلين آخرين لنص واحد قال الأسدي: إن فكرة استعادة النص لها علاقة بفكرة اختبار والعمل على مناطق أخرى في التمثيل، مثلاً مسرحية «الخادمات» قدمتها مرتين في المغرب ولبنان، وكانتا مختلفتين، فكرة تعدد الثقافات والإشارات الجسدية وتعدد الينابيع والمرجعيات والمخزون الفكري والإنساني موجودة عند كل ممثل ولكن بروح أخرى، وعند رؤية ثقافات متعددة للنص الواحد هناك متعة كبيرة جداً.

مسعود والأسدي
قال الفنان غسان مسعود في مداخلته: أنا شاهد على 60% من هذا الحديث، وخاصة حالة السؤال والحالة الثقافية، هناك قاعدة تقول إن العرض الذي لا يسجل أسئلة ليس بعرض مسرحي، وعروض جواد الأسدي كانت تلهب المقاهي والصالونات بالأسئلة، وأجمل ما في مسرحية «الاغتصاب» هي حالة الخلاف بين جواد الأسدي وسعد اللـه ونوس والاشتباك الثقافي والفكري من داخل النص، وهو أفضل من الأداء والإخراج.
وتابع مسعود: للعمل المسرحي ثلاث كتابات: كتابة المؤلف، وكتابة المخرج، وكتابة الممثل الذي يكتب بجسده السينوغرافيا، كان يحق لجواد أن يكتب من جديد مسرحية «الاغتصاب»، والخلاف كان أن سعد اللـه ونوس يقول في نهاية المسرحية «نعوّل على الحوار مع إسرائيل» وجواد قال: «إما نحن وإما أنتم» وبعد ثلاثين عاماً ما الذي يحدث، وهل الحوار مع إسرائيل أعطى نتيجة؟.
هناك بعض المباحثات لتقديم مسرحية لنصين من تأليف جواد الأسدي «كارمن أو راقصيني يافتاتي الحلوة» أو «هندي أحمر»، وقد نذهب إلى خيار آخر لنرى ماالعرض الذي يستحق أن يقدم في هذه المرحلة، نفهم اليوم الوضع الثقافي والجمالي والمسرحي في البلد، والعلاقة بيني وبين جواد كانت علاقة خلّاقة، وعلاقة مشاكسة، وأنا لم أمثل بعد جواد الأسدي وفواز الساجر، وأتمنى الانتقال مع الأسدي إلى منصة جديدة في المسرح السوري.
يجيب الأسدي بدوره: دمشق في أجندتي الدائمة والأبدية، عملت فيها على مدار 20 عاماً، وإذا أردت العمل اليوم فيها يجب تقديم عمل يحمل روحاً وقيمة عالية، وجماليات تمثيل مهمة وهذا يحتاج الى وقت.

درس في التمثيل
وعن الراحل نضال سيجري الذي شارك في عرض «حمام بغدادي» و«أرامل على البسكليت» قال د. جواد الأسدي: طلاء الأظافر ومساحيق التجميل والملابس حولت نضال في تمارين عرض «آرامل على البسكليت» يوماً بعد يوم إلى امرأة حقيقية على خشبة المسرح، لدرجة أن الممثلات شعرن بالحرج هل هو رجل أم أمرأة؟ في الواقع، تسربت فكرة وحس الأنثى إلى جسده بطريقة خطيرة، ولم يعرف الجمهور أنه نضال حتى نهاية العرض.
يمتاز نضال سيجري بانتمائه للتمرين، فهو مفتون لحد الجنون بعمله لذلك يتماهى معه، يحول التمرين إلى ما يشبه المتعة واللذة، كان يأتي يومياً بمقترح جديد، أعتقد أن نضال سيجري أداة يمكن تحويلها إلى درس حقيقي في التمثيل.

محطات
في مداخلته قال الفنان جمال القبش: يعمل جواد الأسدي على آلية تفجير الممثل، وخلق هارموني بين الممثلين أثناء التمرين لأي عرض. وبدوره وجه المخرج سامر إسماعيل لجواد الأسدي سؤالاً: في ظل هذه الحروب الموجودة الإثنية هل يستطيع المسرح وخاصة من بغداد الوقوف في وجه هذا الظلام؟ يجيب الأسدي:
في ظلمة ما يجري وخاصة في العراق، وبقليل من النور والأمل أقول: مع كل العتمة والظلمة والمناخ الإسلامي المتشدد وثقيل الظل الذي يؤرّق حياتنا اليومية إلا أن هناك فتياناً عراقيين مسرحيين يراهن عليهم بطريقة كبيرة، بمعنى أنه رغم هذا الظل هناك نوع من المصادمة بين المتنورين وهذه الظلمة الواسعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن