قضايا وآراء

حال الأمة بين نزوحين

القاهرة – فارس رياض الجيرودي :

فتح مشهد النزوح الناتج عن الحرب على سورية جروح الذاكرة العربية على مداها، ليسترجع العرب ما سبق أن سمعوه عن اللاجئين الخارجين من فلسطين، على حين هم يتابعون -على شاشات التلفاز هذه المرة – المشهد الذي تناقلته وركزت عليه وسائل الإعلام الغربية للاجئين السوريين على أبواب أوروبا، لكن للمقارنة بين الحالتين السورية والفلسطينية أبعاداً تتجاوز الإطار العاطفي، فهذه المقارنة تختصر واقع الأمة بعد ستة عقود من محاولات النهضة، تخللتها مشاريع للتحرر والتقدم رفعت لواءها نخب وأحزاب قومية ويسارية وإسلامية، ثم انتهت إلى ما انتهت إليه.
وأول ما يمكن تسجيله عند المقارنة بين النزوحين الفلسطيني والسوري هو الدورالوظيفي الذي أدته أنظمة العائلات الملكية الحاكمة في البلدان العربية خدمةً للمخططات الكولونيالية الغربية، ففيما توثق سجلات حرب 1948 والوثائق الغربية المرفوع عنها السرية، مساهمة النخب الملكية العربية في تشجيع الفلسطينيين على النزوح من فلسطين، من خلال الدعاية التي كانت تبثها عن الجيوش العربية الجرارة التي ستتدفق على فلسطين بهدف سحق العصابات الصهيونية، في الوقت عينه الذي كان فيه القائد العام للجيش العربي المشكل للقتال في فلسطين، أمير شرقي الأردن عبدالله بن الشريف حسين، يجري مفاوضات مباشرة مع قادة المنظمات الصهيونية تعهد فيها تسليمهم الجزء الأكبر من فلسطين من دون قتال، مقابل توسيع إمارته عبر ضم ما تبقى من فلسطين إليها، وفيما كان مؤسس المملكة السعودية عبد العزيز آل سعود يرسل لبريطانيا خطاباً يقول فيه أن لا مانع عنده من إعطاء فلسطين لليهود أو غيرهم (كما ترى بريطانيا التي لن يخرج عن طوعها حتى تقوم الساعة) على حد تعبيره.
لقد تضخم دور هذه الأنظمة التي كان يطلق عليها مصطلح الأنظمة الرجعية خلال ما سمي بحقبة المد القومي العربي، وذلك بقوة عوائد بيع النفط التي تدفقت عليها، حتى أصبحت المتحكم بالمشهد الثقافي والسياسي العربي، من كان يتخيل خلال فترة النهوض القومي في الستينيات أن تصبح مشيخات الخليج وعلى رأسها السعودية المسيطر الوحيد على قرار جامعة الدول العربية؟، وأن تصبح السعودية ومهرجانها المقام في الجنادرية محجاً للمثقفين العرب الذين لطالما نظروا في شبابهم لمشاريع تحررية تقدمية، ولسرديات تقدح في شرعية وجود مشيخات الخليج، وتخجل من أن جزءاً من الأمة العربية ما زال خاضعاً لحكم شيخ أمي أو شبه أمي صنعت بريطانيا مشيخته أو إمارته أو مملكته.
إن أنظمة الملكيات الرجعية العربية ذاتها التي خدعت الشعب الفلسطيني ليخلي أرضه عام 48 أمام المشروع الصهيوني، هي التي عادت بعد ستين عاماً لتغوي قسماً من الشعب السوري بالتمرد المسلح على دولته عام 2011 مستفيدة من إمبراطورياتها الإعلامية الضخمة، ومن فتاوى مشايخها الذين استجاروا بالناتو وبرجولة أميركا من على منابرهم، وعندما ثبت عجز الحالة الإرهابية داخل سورية وضعفها أمام الدولة الوطنية المدعومة من الكتلة الجماهيرية السورية الأكبر، تم اتخاذ القرار بدفع جموع الإرهابيين من كل أنحاء العالم إلى سورية.
لقد أدى ارتهان القسم الأعظم من النخب الدينية والسياسية والفكرية العربية لإغواء البترودولار إلى حالة سقوط لجماهير الأمة في هاوية من الظلام والعماء الوطني والديني، حتى أصبح المتطوعون من العالم العربي يتطوعون للقتال في سورية بالاستناد إلى الدعم اللوجستي المقدم من دول الناتو وحتى من دولة العدو الصهيوني الذي يقدم للإرهابيين في الجولان (مشافي وحرباً إلكترونية وإمدادات وأحياناً دعماً نارياً)، وذلك بعد أن كان أجداد هؤلاء في منتصف القرن الماضي يتطوعون للقتال في فلسطين ضد العصابات الصهيونية، وهكذا نجح مال النفط في فعل ما لم يتمكن الاستعمار المباشر من فعله، أي تحقيق الاختراق في ثقافة الأمة ودينها، حتى إن المخططين في دوائر صنع القرار الغربي لم يعودوا بحاجة لجلب كتلة بشرية من يهود أوروبا الشرقية كمستوطنين للعبث بكيانات المنطقة وحدودها كما فعلوا في فلسطين، ما دامت الوهابية توفر لهم مستوطنين مؤدلجين من العالم العربي والإسلامي.
لكن المقارنة بين الحالتين السورية والفلسطينية ورغم كل ما تحمله من جانب مأساوي لناحية ما آلت إليه حال عموم الأمة، إلا أنها تحمل من الناحية المقابلة جانباً إيجابياً تتعمد وسائل الإعلام العاملة في خدمة مشاريع الغرب التعمية عليه، والتقليل من أهميته، وذلك في إطار الحرب النفسية الشرسة التي تشن على وعي الأمة، فهذه الحرب بما خصص لها من مقدرات ضخمة لا تشن على لاشيء، فلا أحد يركل قطاً ميتاً مثلما يقول المثل الصيني، لقد خرق الغرب بدعمه الإرهاب في سورية أحد محظوراته التي نشأت إثر انقلاب الحالة الجهادية عليه بعد حرب أفغانستان، وما نتج عن ذلك من ضربات مؤلمة مست أمن الشعوب الغربية في الصميم من خلال هجمات نيويورك وواشنطن ولندن ومدريد الإرهابية، وذلك على أمل سقوط سريع للدولة الوطنية السورية، يتم بعدها احتواء الإرهابيين، والغرب لم يفعل ذلك إلا لأن المخاطرة تستحق.
فقد شكلت الدولة الوطنية في سورية آخر ما تبقى من مشروع النهضة القومية العربية الذي تمت تصفيته في كل أقطار العالم العربي إلا سورية، التي استطاعت بفضل شبكة تحالفاتها الإقليمية والدولية، أن تعرقل الكثير من المشاريع الغربية في المنطقة، وأن تقدم قاعدة دعمٍ لحركات المقاومة التي استنزفت إسرائيل، وضمنت عدم توسعها وتحولها لدولة عظمى تسيطر على المنطقة سياسياً واقتصاديا، كما كان يخطط لها وفق مشروع الشرق الأوسط الجديد.
كما أن سورية بفضل موقعها على المتوسط وقرارها المستقل أصبحت بيضة القبان بالنسبة للتوازنات الدولية بين الغرب الراغب في الاستمرار بالانفراد بالتحكم بثروات العالم وقراره وبين الشرق الناهض، لذلك كان لا بد من تدمير هذه الدولة، وهنا يكمن الفرق الأساسي بين الحالتين الفلسطينية والسورية حيث للسوريين اليوم دولتهم الوطنية، التي لجأ معظم النازحين من مناطق القتال إلى مناطق سيطرتها، والتي ما زال جيشها يقاتل في كل أنحائها، وهو الجيش الذي اعتبرته روسيا وفق تصريح مسؤوليها القوة الأكثر فعالية في مواجهة الإرهاب المهدد لأمن العالم، والجيش الذي تتداعى اليوم القوى المناهضة للهيمنة الغربية على العالم لدعمه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن