قضايا وآراء

بين خريف وخريف

عبد المنعم علي عيسى :

ربما تأتي أهمية الخطوة العسكرية التي أقدمت عليها روسيا الاتحادية في سورية من أنها تزامنت مع مناخ عام دولي بات مقتنعاً بخطورة المسعى الرامي إلى إسقاط النظام في سورية (هذا إن لم تكن القناعة الأخيرة إحدى مفرزات تلك الخطوة) حتى إذا ما اكتمل الرهط الغربي بإعلان أردوغان (24/9/2015) الالتحاق به تأكد أن من الممنوع وجود الحفر المربكة في الطريق الموصل نحو إيجاد حلول سياسية للأزمة السورية.
قد يكون مكروراً القول: إن موسكو تدرك أن معركة الغرب معها لم تنته بمجرد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي 1989، وهو (الغرب) لا يزال يرى فيها العدو الأول الذي تجب محاصرته والحؤول دون استقراره كمدخل لنهوضه، ولربما كانت الدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الإستراتيجية الغربية فاضحة لعمق التفكير الغربي أكثر منها استقراءً سياسياً فها هو معهد استوكهولم البالغ الرصانة يقول في الأشهر الأولى ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي: «إن الدولة الروسية سوف تعود إلى أن تصبح دولة مدنية إلى ما كانت عليه قبل عام 1512م حدودها حدود مدينة موسكو آنذاك».
إلا أن الجديد في الأمر أن موسكو- كما يبدو باتت متيقنة من أن الغرب قد حدد سلاحه الماضي الذي سيوصله إلى مسعاه الأخير بعد أن ارتأى في فكر السلفية الجهادية ضالته المنشودة بعد أن يتم نقل هيكليتها (بعد انتهاء مهامها في المنطقة) إلى نقاط ارتكازها الجديدة في المحيط الروسي (معظم الجمهوريات السوفييتية السابقة) وفي داخله (الشيشان) وفي مرحلة لاحقة ليست ببعيدة في منغوليا وميانمار وفي الصين، ترى موسكو أن المخاطر المتأتية من تنظيم الدولة الإسلامية لا تنحصر في أن الجغرافيا التي يسيطر عليها هذا الأخير هي منطقة عبور كثيف لأنابيب النفط والغاز فحسب، بل في أن تلك الجغرافيا تقوم فوق بحار نفطية تشكل رديفاً فاعلاً في تدمير الاتحاد الروسي وانفراط عقده.
من جهة ثانية فإن الشرق الأوسط يصنف في الاستراتيجيات الأميركية على أنه منطقة مصالح حيوية لواشنطن لا يمكن التخلي عنها مثلها في ذلك مثل أوكرانيا بالنسبة لموسكو ولذلك فإن الحضور العسكري الروسي النوعي جداً- والقابل للتنامي- في سورية يشكل اختراقاً في منطقة الشرق الأوسط لإحداث توازن مع الاختراق الذي حققته واشنطن في مجمل جمهوريات آسيا الوسطى وفي أوكرانيا بشكل خاص يختصر التوصيف القائل: «كأن على رؤوسهم الطير» ردود الفعل الغربية والخليجية تجاه الخطوة الروسية، بينما تؤكد تلك الردود الباهتة دقة الحسابات الروسية قبيل أن تذهب إلى ما ذهبت إليه، وفي تلك الحسابات كانت هناك رؤية روسية تؤكد أن واشنطن الآن لن تسعى نحو مواجهتها في سورية خصوصاً بعد أن فشلت جميع المحاولات الغربية السابقة في تسخين الجبهة الأوكرانية في مواجهة موسكو، الأمر نفسه ينطبق على البريطانيين حيث قال فيليب هاموند وزير الخارجية البريطاني 25/9/2015: «إن الوجود العسكري الروسي في سورية يحمل موسكو أعباءً أخلاقية إضافية» ومن المعروف أن السياسات عندما تتلطى وراء خزان الأخلاق والقيم فإن ذلك يعتبر مؤشراً على أنها (السياسات) قد باتت في المرحلة التي لم تعد تنفع فيها المواجهة مع من تطالبه باستخدام ذلك الخزان.
أوروبياً يمكن القول إن أزمة اللاجئين السوريين قد حددت طبيعة المناخ العام الأوروبي السائد إلى درجة كبيرة، فقد كان الشارع الأوروبي قبل حكوماته مدركاً للتأثيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية المحتملة إذا ما تفاقمت تلك الأزمة، وكلا الاثنين (الشارع +الحكومات) يرى أن جميع الخطط الموضوعة لن تكون كفيلة بإنهاء تلك الأزمة ولذا فإن الأوروبيين سوف يرحبون بأي خطوة من شأنها أن تكون فاعلة في الحد منها وخصوصاً إذا ما كانت في بلد المنبع.
إقليمياً يختصر الخنوع السعودي مواقف الدول الإقليمية المتموضعة في الخندق المعادي لدمشق، وهو متولد عن رؤية سعودية باتت تؤكد وجود حالة «تطنيش» دولية حيال مأزقها في اليمن، في الوقت الذي يبدو فيه الوضع الميداني اليمني أكثر من مقلق، صحيح أن التحالف السعودي قد استطاع أن يحقق تقدماً ملحوظاً في الشهرين الأخيرين إلا أن ذلك كان أحد الإفرازات السريعة لاتفاق فيينا 14/7/2015 التي كانت محكومة بلحظة سياسية لم تعد حاضرة حالياً، وأي تغيير مهما يكن طفيفاً في طبيعة التحالفات أو في رفع سقوف الدعم الخارجي، سيكون من شأنه أن يقلب المشهد اليمني رأساً على عقب وربما لعودة الأمور إلى ما كانت عليه بعد أيلول 2014.
هدفت الهرولة الإسرائيلية إلى موسكو التي زارها سريعاً بنيامين نتنياهو 21/9/2015 إلى إيجاد نوع من التنسيق العسكري والاستخباراتي في سورية على الرغم من أن الخطوة الروسية ستؤسس لواقع سوف يكون بطبيعته متناقضاً تماماً مع المسعى الإسرائيلي نظراً لأن التنسيق الروسي في سورية سوف يكون مع أطراف هم في الخندق المعادي لتل أبيب كالجيش العربي السوري وحزب الله ولذلك فإن من الممكن القول إن التصريح الصادر عن الكرملين 24/9/2015 الذي أعلن فيه عن التوصل لاتفاق تنسيق روسي إسرائيلي في الساحة السورية، هو اتفاق في الحدود الدنيا، ترى فيه تل أبيب أنه غير كاف لاستمرار السياسة الإسرائيلية في سورية منذ آذار 2011 التي تقوم على استثمار الوضع السوري لتوجيه ضربات عسكرية لمواقع ترى فيها أنها قد تهدد أمنها القومي، تلك السياسة كانت تسير وفق برامج زمنية مقررة مسبقاً وهو ما يمكن أن يقرأ في تصريح نتنياهو في مؤتمره الصحفي في موسكو 21/9/2015 حين قال: إنه «يخشى من حصول اصطدام بين القوات الإسرائيلية والروسية في سورية».
وفي النتائج بات من الممكن القول إن أسرعها تبلوراً يتمثل في نسف وثيقة جنيف1 (30/6/2012) فالإعلان عن وصول الطائرات الروسية الأولى إلى مطار حميميم أوائل أيلول الجاري كان هو نفسه إعلاناً صارخاً عن موت جنيف1 وانتهاء مفاعيله.
بعد وصول حلفاء موسكو إلى سدة السلطة في هافانا العام 1958 قامت واشنطن بالعديد من المحاولات التي تهدف لغزو الجزيرة الكوبية وإسقاط النظام القائم فيها كان آخرها مطلع عام 1962 والتي أطلق عليها اسماً رمزياً هو عملية «النمس» بينما قام الاتحاد السوفييتي كرد على هذه العملية الأخيرة بعملية سماها «أنادير» وهو الاسم الرمزي لنشر صواريخ بالستية متوسطة المدى في كوبا بدءاً من أيار 1962 لتبدأ تلك الأزمة بالتفاعل منذ 8 تشرين الأول 1962 قبل أن تحط أوزارها في 28 من هذا الشهر الأخير بعد التوصل إلى اتفاق روسي- أميركي يقضي بسحب الصواريخ السوفييتية من الجزيرة الكوبية وبمعنى آخر بعد الإعلان عن فشل «أنادير» رسمياً.
حصل ذلك في خريف عام 1962، وفي الخريف الحالي من (عام 2015) يتبدى الكثير من المؤشرات التي تقول بوجود حالة نقيضة ما يسمح بالإعلان عن نجاح العملية (X) في سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن