قضايا وآراء

ترامب الذي لن يعزل

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن جرى تسريب المكالمة الهاتفية ما بين الرئيس دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الحاصلة في 25 تموز الماضي وفصولها لم تنفك تتداعى لحظياً فاتحة الباب أمام مزيد من تهتك النسيج السياسي الأميركي الماضي أصلاً في سياقات من هذا النوع قبل حين بفعل عوامل عدة ذات علاقة بتحولات الداخل شديدة الالتصاق بتحولات السياسة الأميركية الخارجية.
لم تكد قدما ترامب تطآن البيت الأبيض في كانون الثاني 2017 حتى رافقتهما محاولات الطعن في رئاسته بل بدت وكأنها «فريضة» متلازمة مع المسار الذي اختطه وفيه لم يكن هذا الأخير غامضاً بل كان واضح المعالم ليس من خلال حملته الانتخابية التي استمرت لمدة عام كان كافياً لبلورة صورة جلية راسمة لملامح السنوات الأربع المقبلة فحسب، بل من مواقف الرجل التي راكمها أرشيفه منذ أن امتهن السياسة في عام 1987، وهو على امتداد تلك المرحلة إلى الآن كان امتداداً موضوعياً لتراكمات طويلة الأمد في السياسة الأميركية، ونهجه بالتأكيد يغوص عميقاً في شرائح واسعة ذات ثقل شعبي بالدرجة الأولى لكنها أيضاً تحظى برضى واسع في أوساط نخب اقتصادية وثقافية وازنة.
تقوم الذريعة التي يستند إليها الديمقراطيون في سعيهم إلى عزل ترامب على أساس أن المكالمة سابقة الذكر تثبت أن هذا الأخير قد سعى للحصول على دعم دولة أجنبية من أجل تقويض ترشيح جون بايدن الذي يبدو أنه الأوفر حظاً في الحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي في الانتخابات التي ستجري في تشرين الأول من العام المقبل، والمؤكد أن التسريبات قد أثبتت أن ترامب قد مارس ضغوطاً على نظيره الأوكراني وصلت إلى حدود ربط استقبال هذا الأخير في البيت الأبيض بخضوعه لتلك الضغوط، وتلك بالتأكيد تمثل مخالفة للقوانين الأميركية بل نخراً في بنيان كيان أعطى النموذج الأمثل في صناعة القوة والثروة على امتداد القرن المنصرم.
كان قرار الديمقراطيين بالفرملة في مسار عزل ترامب الذي طرح في أعقاب التحقيقات التي جرت على خلفية تدخل روسي محتمل في انتخابات عام 2016 التي قادت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قد انطلق في حينها من أن المضي في مسار كهذا لن يدفع إلا إلى مزيد من الانقسام داخل النسيج السياسي والمجتمعي للبلاد قياساً إلى استطلاعات الرأي التي كانت تظهر ترجيحاً لشعبية الرئيس في مواجهة خصومه، واليوم يبدو المشهد شبيهاً بالحالة السابقة من حيث القراءة والنتيجة، لكن ذلك لم يدفع بالديمقراطيين إلى اعتماد الفرملة المعتمدة سابقاً أقله حتى الآن.
من الراجح أن قرار المضي قدماً في معركة عزل ترامب ليس هدفه الوصول إلى هذه النتيجة الأخيرة ليس لأن ذلك لا يمثل غاية للساعين إليه، وإنما لإدراك هؤلاء أن مساراً مغلقاً كهذا عند مجلس الشيوخ الوكيل الحصري للعزل، وفي ظل هيمنة الجمهوريين على هذا الأخير فإن وصول المساعي إلى غاياتها المرجوة يصبح أمراً شبه مستحيل، أما الرهان على حدوث انزياحات في صفوف الجمهوريين يمكن أن تشكل فرصة سانحة لتحقيق المرجو فإنه يبدو رهاناً ضعيفاً على الرغم من النشاز الذي ظهر لدى بعض وجوه وقيادات الحزب.
من المؤكد أن المضي قدماً في قضية التسريبات سوف يصيب ترامب بشظاياها، إلا أن نظيرة هذي الأخيرة ستكون أبلغ أثراً على جون بايدن نفسه، وما تكشف حتى الآن يظهر أن هذا الأخير كان قد طلب في عام 2015، أي عندما كان نائباً لباراك أوباما، من الرئيس الأوكراني إقالة النائب العام الذي يحقق في قضايا فساد نجله هانتر الذي تقول التحقيقات أيضاً إنه كان يتقاضى راتب 50 ألف دولار إبان عمله في مجموعة غاز أوكرانيا «بوريسما» بدءاً من عام 2014 دون امتلاكه لأي كفاءات في قطاع الطاقة وفقاً لتأكيد رئيس الوزراء الأوكراني ميكولا أزاروف لوكالة رويترز.
يبدو أن قرار الديمقراطيين المضي قدماً بإجراءات عزل ترامب يعود بالدرجة الأولى إلى صراع تيارات داخل الحزب، فالمعركة من المرجح أن تفضي إلى إزاحة جون بايدن لمصلحة تبني الحزب لترشح بيرني ساندرز الذي لا يبدو أنه الأوفر حظاً حتى الآن، وهذا الاحتمال وارد جداً قياساً إلى مؤشرات عدة ترصد بروز ظاهرة داعمة لصعود هذا الأخير الذي يوصف نفسه بأنه اشتراكي، فقد شهدت أوساط الحزب الديمقراطي بدءاً من انتخابات 2016 صعوداً لنفوذ الاشتراكيين في صفوفه وصل إلى حدود تضاعفه لست مرات الأمر الذي دفع بـ«الايكونوميست» الرصينة إلى التساؤل عن معنى عودة «موضة الاشتراكية» إلى الولايات المتحدة بعد مرور ربع قرن على انهيار طبعتها السوفييتية، يأتي ذلك بالتزامن مع نجومية تبدو واعدة وهي مهيأة لبروز أكبر لـ«اليكسندرا أوكاسيو» العضوة اليسارية في الكونغرس الأميركي، ناهيك عن مؤشر مهم آخر تمثل في صدور «ألمانيفستو الاشتراكي» الذي أصدره باسكال سنكار في كتاب حمل العنوان نفسه قبل أسابيع.
لا نهدف من وراء السردية السابقة للقول إن الولايات المتحدة ماضية نحو ركب موجة اشتراكية وفق لون يناسبها، فـ«ألمانيفستو» الشيوعي الذي أصدره كارل ماركس 1948 احتاج لكي يكتمل تكوينه في الرحم الروسية لما يقرب من سبعة عقود، إلا أننا نريد القول إن تلك الظواهر تمثل صراع تيارات داخل الحزب الديمقراطي وهذي الأخيرة تسجل حضوراً أيضاً في النظير الجمهوري وإن كان بدرجة أقل بكثير، وهذا في مجمله يؤسس لمرحلة جديدة قد تطول عملية تبلورها لبروز قوى جديدة بعيداً عن التراصف الجمهوري الديمقراطي الذي سيطر على الحياة السياسية في أميركا على امتداد عقدين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن