قضايا وآراء

انتفاضة قادمة على طريق إنهاء الوجود الصهيوني

| د. يوسف جاد الحق

مع اقتراب شهر تشرين الثاني شهر الذكريات الحزينة الأليمة، بلفور والتقسيم، الذي بات موسماً للكلام، لخطب البلاغيين المفوهين لأقول إنه من قبيل العبث ألا نتحدث في شؤون فلسطين إلا في المناسبات والمواسم. وكفى الله المتكلمين القتال!
لقد رأيت، خروجاً على هذه القاعدة، أن أهيب بالإخوة الفلسطينيين، والمخلصين من الإخوة العرب المقيمين على الوفاء والولاء لقضيتهم الفلسطينية المقدسة بالعمل على أمرين:
أولهما: العودة إلى المطالبة، على كل صعيد بما في ذلك المؤسسات الدولية، بحقنا الأزلي في استعادة أرض فلسطين بكامل مساحتها البالغة 27500 كم2، وليس الاكتفاء بحدود عام 1967، وما عرف يومئذ بمقولة «إزالة آثار العدوان»، إذ لم يكن ذلك في حينه سوى مطلب تكتيكي مرحلي لاحق استدعته ظروف هزيمة حزيران من ذلك العام، لأسباب لم تعد مخفية على أحد، وإلا فهل يعني ذلك أن اغتصاب فلسطين عام 1948 عام النكبة لم يكن عدواناً؟ ولم تسرق فيه أرض ولا أهدرت حقوق بشر؟
المؤسف، بل المدمي للقلب أن نرى اليوم قيادات عربية وفلسطينية تعتبر حدود ما بعد 1967 هي وحدها المطلب بناء على قرار هيئة الأمم المتحدة الماكر رقم 242 الذي صاغه إمعاناً في التضليل والاحتيال اللورد كارادون البريطاني، متعمداً الغموض، الذي درج عليه الإنكليز في مصطلحاتهم الغامضة وتعابيرهم التي تحمل أكثر من معنى وبلغتهم، لكي يذهب المفسرون بعد ذلك مذاهب شتى لا تفضي، في نهاية المطاف إلا للخلاف والاختلاف وتشتت الآراء، لتكون النتيجة الحتمية لكل ذلك ضياع الحقوق في متاهات التفسيرات المتضاربة المختلفة. لقد تعمد كارادون هذا القول بإعادة «أراضٍ» احتلت عام 1967، وليس «الأراضي» المحتلة، و«أل» التعريف هذه مضى عليها ما ينوف على اثنتين وخمسين سنة بالتمام والكمال من دون الوصول إلى حسم قاطع في شأنها! وذلك هو المطلوب عندهم.
نسأل المطالبين اليوم بتنفيذ القرار 242 وأخيه القرار 338، ماذا عن فلسطينهم التي احتلت عام 1948؟ هل يقرُّون للعدو اليوم بامتلاكه لما احتله عنوة يومئذ، ومن ثم فإن حقنا ينحصر فيما تبقى من الأرض في غزة والقطاع وحسب؟
ثم ماذا عن أبناء تلك البلاد التي احتلت يومئذ وأخرج منها أهلها: صفد ويافا وحيفا واللد والرملة ويبنا وأسدود والمجدل وو… آلاف المدن والقرى في طول البلاد وعرضها؟
هل يبقى هؤلاء وأبناؤهم وأجيالهم القادمة بلا وطن تحت عنوان ما يعرفه الغرب بـ«Stateless» كأنما كتب عليهم «التيه» في أرض الله الواسعة إلى أبد الآبدين؟
أم إن هؤلاء تنازلوا طواعية عن ملكيتهم التاريخية لأرض الآباء والأجداد إلى إسرائيل، احتراماً لكارادون وإرضاء لرئيسي الولايات المتحدة الأميركية باراك أوباما ودونالد ترامب وبقية العصابة الآثمة.
ثانيهما: قيام انتفاضة جديدة تشمل الأراضي الفلسطينية كلها، ولاسيما أننا نعيش الآن قريباً من ذكرى الانتفاضة الأولى عام 1987، التي أرَّقت ليالي العدو إلى أن أجهضها المتخاذلون والمتواطئون، عندما حالوا بينها وبين المضي إلى غاياتها المنشودة.
صحيح أن الانتفاضة المنتظرة لن تفضي إلى تحرير فلسطين راهناً، غير أنها سوف تزيد من خوفه وضعفه أمامها، ذلك الضعف الذي صنعته وكشفته الانتفاضات والحروب التي خاضتها معه في لبنان وفلسطين، تدعمها قوى الحلف المقاوم الثابت على مبادئه ورؤاه سورية وإيران.
إن ما يجري على الأراضي الفلسطينية، من عمليات قتل يومي، ومن سجن وتعذيب لأبنائها، ومن مصادرات، بل سرقات لما تبقى من أرضها، ومن بناء للمستوطنات، ومن انتهاكات للمقدسات في القدس والخليل وبيت لحم والناصرة وغيرها، يضاف إلى ذلك كله تلك المساعي المحمومة لدفع الفلسطينيين دفعاً إجبارياً إلى مواصلة المفاوضات العبثية الهزلية التي لا هدف لها غير الإلهاء عن كل هذا الذي يجري من جهة، ولكي تحقق إسرائيل من جهة أخرى، مزيداً من المكتسبات، وفي مقدمها الوقت الذي يمكِّنها من تهيئة الأوضاع للتهويد الكامل، ومن ثم ترحيل البقية الباقية من شعب فلسطين عن ديارهم التي بقيت لهم، وصولاً في نهاية المطاف إلى تحقيق المؤامرة الأخطر «صفقة القرن».
تشهد على ذلك رحلات وزير خارجية أميركا مايك بومبيو المكوكية. لا يجهل أحد أن عين الرجل على الرئاسة والبيت الأبيض عند انتهاء ولاية ترامب الوشيكة. وهو من ثم يوظف جهده المحموم هذا، وموقعه كوزير للخارجية لنيل أصوات اللوبي والجماعات اليهودية عامة. نحن إذاً كشعب، وقضية «بأمها وأبيها» لسنا أكثر من ورقة انتخابية لمصلحة هذا أو ذاك من الحالمين بدخول البيت الأبيض.
ولا بد لنا من التنويه بأن حكاية المفاوضات، المهزلة هذه أخذت من وقتنا الضائع ودمنا المهدر عقوداً من الزمن منذ «أوسلو» إياها، وقد نعاها أمين عام الجامعة العربية السابق عمرو موسى ذات يوم بقوله: إنها ماتت وشبعت موتاً، ولم يفت كبير المفاوضين صائب عريقات، من يعظمونه التصريح بأنها ماتت منذ زمن ما عرَّض عملية السلام للخطر.. على حد قوله ولا ندري عن أي سلام يتحدث الرجل.
خلاصة القول إن الظروف الراهنة، على صعيدي الإقليم والعالم، مواتية تماماً لقيام انتفاضة جديدة تمهد لحرب تحرير شاملة في مستقبل قد لا يكون بعيداً. ولكي يتحقق لها الظفر فلابد أن تكون عامة شاملة، لسائر الأراضي الفلسطينية وعموم وأبناء الشعب الفلسطيني، وفي المقدمة عرب فلسطين عام 1948.
ولا ينبغي لنا هنا أن نغض الطرف عن ظروف العدو نفسه التي تختلف جذرياً اليوم عما كانت عليه قبلاً، فهو لم يعد ذلك البعبع الذي طالما أخاف العرب بما غرس في وجداناتهم الإعلام الخادع المضلل من أوهام تخَيّل إليهم أن قدرته لا حدود لها ولا راد لمشيئتها عن فعل ما يشاء في الإقليم كله. ولكنه الآن أمسى يعيد النظر في مسألة وجوده ذاتها على أرضنا في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، هذا الوجود يدخل اليوم مرحلة العد التنازلي المتسارع وفق المعطيات الراهنة، الظاهر منها والخفي على حد سواء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن