ثقافة وفن

من لم يمثل في المسرح لا يستحق لقب فنان … سميحة أيوب لـ«الوطن»: الرئيس حافظ الأسد كرمني وهو من أطلق علي لقب سيدة المسرح العربي

| القاهرة – لونا بوظو

هي سفيرة الفن الراقي الأصيل، وواحدة من رموز وقامات الفن المسرحي المصري الباسقة، حيث وهبت جل حياتها للمسرح فأثرته بكم هائل من الأعمال المتفردة التي شكلت محطات مضيئة في تاريخه فوهبها المجد والخلود وتقدير وحب الجماهير العربية والعالمية لفنها الراقي المترفع عن الابتذال والإسفاف.
حصلت على عدد كبير من التكريمات العربية والعالمية فقد كرمها الزعيم الراحل عبد الناصر في بداياتها الفنية، ومنحها الرئيس الفرنسي جيسكار دستان وساماً من رتبة فارس، قبلها سارتر قائلاً أخيراً وجدت اليكترا في القاهرة.. أما الرئيس حافظ الأسد فهو من أطلق عليها لقب «سيدة المسرح العربي» فاستحقته عن جدارة، مع الفنانة الكبيرة سميحة أيوب كان لنا هذا اللقاء:

في البدء نحب أن نتعرف منك على من ساهم في تكوين شخصية سميحة أيوب على الصعيد الإنساني؟
والدتي رحمها اللـه هي صاحبة الفضل الأكبر في تكويني لأن والدي كان منشغلاً بعمله فقد كان يشغل منصب وكيل لوزارة المالية إضافة إلى اهتمامه بوقف للعائلة، كان يستغرق جل وقته لذلك كانت مسؤولية تربيتنا كاملة تقع على عاتق والدتي التي كانت امرأة جميلة الشكل تخفي حناناً جارفاً وطيبة قلب متناهية وراء تعابير وجهها الصارمة وسلوكها الحازم معنا فهي لم تكن تسمح بالتسيب أو تتساهل معنا أنا وشقيقتاي إطلاقاً عند أي هفوة نرتكبها، زرعت فينا الصدق والقيم المثلى وكيف نلغي كلمة مستحيل من حياتنا أمام الإصرار والإرادة والمحاولة المتكررة ومنها تعلمت كيف أكون قوية صلبة شامخة لا أنحني أمام الرياح مهما بلغت شدتها وأن أتابع طريقي قدماً نحو الأمام دون أدنى التفاتة للوراء.. أن أتغلب على ضعفي وأخفيه حتى عن أعين أقرب المقربين وألا أشكو قلة حيلتي إلا لله عز وجل أيضاً تأثرت بخالي فقد كان عالي الثقافة وذا فكر مستنير له ديوانان من الشعر خريج السوربون وهو الذي شجعني على الالتحاق بمعهد التمثيل.. ووقف في وجه والديّ اللذين عارضا بشده مجرد فكرة دخولي عالم الفن، وعندما أخفق في إقناعهما اصطحبني معه لمنزله وجلب لي أساتذة لتعلم أصول اللغة العربية والنطق السليم.. بسبب ثقافتي الفرنسية لكوني طالبة في مدرسة للراهبات.

ولماذا اخترت الاتجاه للعمل الفني في سن مبكرة رغم معارضة أسرتك المحافظة للأمر؟
أنا لم أختر الفن بل على العكس هو من اختارني.. دخولي الفن كان بالمصادفة البحتة ففي أحد الأيام الدراسية تغيبت إحدى مدرساتنا بسبب المرض وعندها أخبرتني إحدى صديقاتي بأنها ذاهبة لأداء اختبار القبول لمعهد التمثيل «المعهد العالي للفنون المسرحية» حالياً وطلبت مني مرافقتها فذهبت معها من باب الفضول فقط وكنت أرتدي الزي المدرسي وبعد انتهائها من الأداء طلب أحد أعضاء اللجنة مني أن أتقدم وأؤدي مشهداً ما أو ألقي شعراً ولكني رفضت وتلعثمت وبكيت حينها ولكن الفنان جورج أبيض وكان أحد أفراد لجنة التحكيم مع العملاق يوسف وهبي قرر قبولي كطالبة مستمعة بسبب صغر سني فقد كنت ما أزال في الرابعة عشرة من عمري فقط رغم معارضة شديدة من الفنان زكي طليمات ولعلك تستغربين عندما تعلمين أن الفنان زكي طليمات هو صاحب الفضل الأكبر عليّ لأنه عدل عن رأيه عند إيمانه بموهبتي المبكرة فتبناني فنياً بعد ذلك لا بل حصل لي على استثناء من وزير المعارف لأصبح أصغر طالبة نظامية بالمعهد، كما جعلني أشارك في مسرحية «البخيل» لموليير رغم أني وقتها كنت ما أزال في سنتي الدراسية الأولى.
وهل لهذا السبب فضلت الاتجاه للعمل المسرحي تحديداً؟
المسرح هو «أبو الفنون» لأنه المصنع الحقيقي للفنان ومن لم يمثل للمسرح لا يستحق لقب فنان برأيي، فالمسرح الجاد الملتزم يلتحم في الثقافة الوطنية والقومية لأي بلد ويرتبط بعلاقة وثيقة بقوى التنوير والتقدم فمن خلال ما يقدمه من مضمون فكري ثري هادف يساهم وبشكل مباشر في تطوير وعي المتلقي والارتقاء به ثقافياً وجمالياً، بالنسبة لي المسرح هو عالمي الخاص، عشقي الأوحد. هاجسي وجنوني.. معبدي الذي وقفت على خشبته المقدسة أول مرة وأنا ما أزال في الخامسة عشرة من عمري وقضيت في محرابه أجمل سني عمري على الإطلاق وحتى الآن لا أزال أشعر بالرهبة والحماس ذاته عندما أحضر أحد العروض الجادة على ندرتها.

المسرح المصري شهد نهضة كبيرة على جميع الصعد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حتى الكوميدي منها كمسرح الفنان الكبير فؤاد المهندس والفنان عادل خيري! إلامَ تعزين تلك النهضة الكبيرة آنذاك؟
بالفعل كانت تسود البلاد نهضة ثقافية فكرية شاملة على الصعد كافة، في الأدب.. المسرح…. السينما.. الرسم.. الموسيقا والغناء، والفضل في ذلك كان يعود لإيمان الزعيم الخالد جمال عبد الناصر بدور الثقافة المهم في الارتقاء بشعبه وتقدمه حضارياً وإبعاده عن الأفكار الظلامية، لذلك كان يحرص أشد الحرص على تشجيع المواهب الشابة وتحفيزها على الإنتاج والإبداع، حتى إنني حصلت على وسام الجمهورية للفنون وأنا ما أزال في مقتبل حياتي الفنية الأمر الذي حملني مسؤولية كبيرة ودفعني إلى الالتزام التام بتقديم أعمال فنية ذات مضمون هادف وإن ابتعد كل البعد عن الإسفاف والأعمال السطحية والمسرح التجاري.

وما السبب الرئيس برأيك لحالة الانهيار والتدهور التي عاناها المسرح المصري تدريجياً حتى وصل لمرحلة الانحطاط التام في الآونة الأخيرة؟
ليس المسرح المصري فقط هو الذي تراجع في المستوى بل المسرح العربي كله، لأن المسرح هو مرآة المجتمع الصادقة التي تعكس جميع حالاته.. فمنطقتنا العربية الآن تعيش في عصر انحطاط فكري وأخلاقي نتيجة المؤامرات الخارجية عليها والتي تسببت بجعلها بؤرة للحروب والصراعات التي تحتدم فيها والمواطن العربي أصبح يرزح تحت ضغوط نفسية ودموية من قتل وتهجير وظروف معيشية قاسية فأعتقد أننا في طريقنا للازدواجية، ولكن مع ذلك ورغم الانكسارات السياسية والاجتماعية والثقافية ورغم الظروف الضاغطة أتمنى أن تنتصر القيم الإنسانية ونتخلص من الضغينة والأحقاد وإيماني لا يزال قوياً بعودة الازدهار للمسرح العربي والمصري في المستقبل القريب، لأنني مؤمنة بالأجيال الجديدة الشابة التي ابتدأت بشائرها تلوح في الأفق من خلال تجاربها المتنوعة والواعدة رغم محدودية الموارد المتاحة أمامهم وأنا أتمنى أن توليهم الدولة ومؤسساتها الثقافية دعماً أكبر حتى يعود المسرح إلى سابق عهده وازدهاره.

وما نصائحك لهم؟
الصدق.. الإيمان بالفن وبرسالة المسرح الثقافية الحضارية الجمالية التي تهدف إلى نقد الواقع وكشفه من خلال التفاعل المباشر مع الجمهور وإيجاد الحلول الناجعة لأهم مشكلاته بعيداً عن الترفيه المسف والابتذال والحركات التهريجية.

أيضاً في السياق نفسه شهد المسرح القومي فترة ازدهار كبيرة إبان فترة توليك لرئاسته والتي امتدت لما يقارب الأربعة عشر عاماً، فهل السر وراء ذلك يعود لثقافتك العالية وشخصيتك القيادية أم لكونك بنت المسرح القومي التي تعي مدى أهميته وتلم بجميع مفرداته؟
الإدارة بالإضافة لكونها علماً قائماً بذاته إلا أنها في الوقت نفسه نوع من الفن والحب، فحبي الكبير للمكان، لأروقته، للكوادر العاملة فيه، وإدراكي التام لمدى أهمية رسالته التنويرية كل ذلك انعكس بشكل إيجابي على سرعة إيقاع العمل ومسيرة التطوير، فقد كانت لدي رؤية واضحة وخطة شاملة حرصت على تنفيذها بمنتهى الدقة والموضوعية وأنا أخذت عن والدتي أيضاً كما ذكرت الشخصية القيادية وروح التصميم والمثابرة.

بعد قيامك ببطولة أكثر من 170 عملاً مسرحياً متميزاً تم تكليل مسيرة نجاحك الثرية بأن أطلق اسمك مؤخراً على القاعة الرئيسية في المسرح القومي كما تم منحك وسام النيل للفنون، ماذا يعني لك هذا التكريم؟
هو بالنسبة لي حلم تحقق وصدقيني لو قلت لك بأنني لم أجرؤ يوماً حتى أن أحلم به فتسمية القاعة الرئيسية بالمسرح القومي باسمي والتي شهدت قيامي بعشرات البطولات التي أفخر بتجسيدها لكبار الكتاب المحليين والعالميين شرف كبير لي يجعلني أشعر بسعادة غامرة لا تضاهيها أي سعادة أخرى شعرت بها طوال حياتي.. تكريمي بهذا الشكل يشعرني بأن مسيرة حياتي الفنية كانت مثمرة وناجحة وأعطت نتائجها المرجوة، ففي حياة كل فنانة دور مميز تفتخر بتجسيده في حياتها كإلكترا أو أنتيجون، أما أنا فمثلت إلكترا وكليوباترا وأنتيغون وفيدرا والعديد العديد من الأدوار الهادفة لكتاب محليين وعالميين مثل «سكة السلامة» و«السبنسة» و«رابعة العدوية» و«ست البنات» و«المنقذة والصعلوك» و«سقوط فرعون» و«صندوق الدنيا» و«ست الجيران» و«الفتى مهران» و«ليلة الحنة» و«يا سلام سلم» ودماء على ستار الكعبة التي حضر عرضها الشيخ المستنير محمد متولي شعراوي ودعا لنا فيها.

وهل من تكريم آخر تفخرين به؟
تكريمي من الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه اللـه فهو من أطلق علي لقب «سيدة المسرح العربي»، وذلك بعد تقديمي لمسرحية «يا سلام سلم» للكاتب الكبير سعد الدين وهبة في دمشق إذ أعرب عن إعجابه بموهبتي وبخياراتي الفنية وحينما سلمني وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى قال لي «تقدمي يا سيدة المسرح»، وسلمني الوسام وكنت أول فنانة تحصل على هذا الوسام في سورية وبعد ذلك فوجئت بأن جميع النقاد والإعلاميين المصريين والعرب يلقبونني بسيدة المسرح وهو لقب أتشرف بحمله.

إذاً لماذا توقفت عن العمل المسرحي وأنت في أوج عطائك الفني؟ وهل من عودة قريبة؟
لأن الفن الراقي الملتزم البعيد عن الإسفاف والتهريج لم يعد موجوداً الآن إلا فيما ندر كمسرح الفنان القدير محمد صبحي وجلال الشرقاوي وبعض العروض الاستثنائية كمسرحية «حلم ليلة صيف» للمخرج الشاب مازن الغرباوي ومسرحية «الملك لير» للفنان القدير يحيى الفخراني والتي استمتعت بمشاهدتها مؤخراً، أنا أبحث عن النص الجيد الذي يضيف لتاريخي الفني ولا ينتقص منه لأن النص هو ركيزة أي عمل مسرحي ناجح وليس ما نشاهده من اسكتشات وارتجالات وتهريج وإسفاف لا يمت للمسرح بأي صفة… وعندما أجد النص الجيد سأعود على الفور.

أيضاً كما نعرف جميعاً تألقت على خشبات المسرح العالمية وأعمالك نالت استحسان وإشادة النقاد وإعجاب جماهير المسرح العالمي لدرجة أنك حصلت على وسام بدرجة فارس من الرئيس الفرنسي جيسكار دستان لماذا لم تستمر تجربتك الناجحة مع العالمية؟
أنا بالفعل قدمت نحو خمسة عروض مسرحية عالمية، إذ قدمت مع المخرج السوفييتي ليسلي بلاتون مسرحية «أونكل فانيا»، و«الطباشير القوقازية» مع مخرج ألماني، و«أنطونيو وكليوباترا» مع المخرج الإنكليزي فيردز بوس، ومع المخرج الفرنسي جون بيير لوروي مسرحية «فيدرا» التي قدّمتها في باريس لمدة 15 يوماً على خشبة أضخم المسارح هناك، وأشادت بها الصحف الفرنسية كنت أستغرب الحضور الكبير من الجمهور الفرنسي الذي أتى ليرى كيف تجسد فنانة مصرية شخصية فيدرا للكاتب الفرنسي راسين، فكان يقرأ النص على ضوء مصباح اليد ويتابعني في الوقت نفسه، لذلك حرصت على إخراج جميع مهاراتي وطاقاتي الإبداعية فكنت كل يوم ألعب فيها الشخصية بطريقة مختلفة، الأمر الذي جعل النقاد والصحف الفرنسية تشيد بأدائي، وبالتالي حصلت على وسام الاستحقاق من مرتبة فارس.. حتى عندما قمنا بعرض خاص لمسرحية الذباب لجان بول سارتر إبان زيارته للقاهرة برفقة سيمون دي بوفوار بعد الانتهاء من العرض صعد للمسرح وقبلني قائلاً: أخيراً وجدتُ إليكترا في القاهرة، وربما السبب في عدم استمراري بالعروض العالمية هو إجادتي للغة العربية الفصحى لغتي الأم وعشقي لها وحرصي على أداء أدواري بها وتوجيه رسائل هادفة من خلالها للمجتمع المصري الذي يعنيني بالمقام الأول.

بعيداً من الفن.. ما أهم هوايات الفنانة القديرة سميحة أيوب؟
أنا قارئة نهمة للأدب العربي والعالمي.. أتابع نشرات الأخبار باستمرار وأعشق الاستماع لعباقرة الفن العربي كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ.. أيضاً أستمع للأغاني الحديثة لعمر دياب وتامر حسني.

أخيراً، ما رأيك بالفن المسرحي السوري؟
من دون أي مجاملة شاهدت العديد من العروض المسرحية السورية الرائعة من خلال المهرجانات المسرحية التي أحضرها سواء القديمة منها أم الشبابية الجديدة.. كما أنني سعيدة جداً بالدراما السورية وتميزها. الفنان السوري فنان مبدع واثق من قدراته، يستطيع التألق أينما وُجدت تربة فنية خصبة ترعاه، ولعل أكبر مثال على ذلك تألق العديد منهم في المسلسلات المصرية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن