قضايا وآراء

شذرات من كلامِ رئيس الجمهورية

| فرنسا - فراس عزيز ديب

تتَّسِم الخِطابات والمقابلات التي يُجريها الرئيس بشار الأسد بأنها تجعلنا نبدو وكأننا نتابعُ درساً من دروسِ انتقاءِ المصطلحات والتعابير، تحديداً إننا اليوم نبدو فعلياً في خضَمِّ معركةِ مصطلحاتٍ ومواقفَ على المستويين الوطني والدولي لا تقلُّ شراسةً عن المعركةِ ضد الإرهاب.
على هذا الأساس، لم يخرج لقاؤهُ الأخير على شاشتي الفضائية والإخبارية السوريتين عن هذه القاعدة، لدرجةٍ يبدو فيها من السذاجةِ بمكانٍ التعقيبَ على الحوار لأنهُ عملياً يبدو عميقاً لدرجةِ الخوض بأدقِّ التفاصيل، مبسَّطاً ليصل إلى الجميع.
من اعتبارِ الحرب خياراً نهائياً بوجهِ كل إرهابيٍّ يرفض إلقاءَ السلاح، مروراً بتشتيتِ أحلام الواهمين بالسيطرة على القرار السوري عبر إضعاف الدولة المركزية، وصولاً لإعادةِ الاعتبارِ للإعلامِ كأحد أهم الأسلحة في مواجهةِ آفةِ الفساد المستشري في قطاعاتنا الحكومية، بما فيها الإعلام، يُمكننا ببساطةٍ التقاط مجموعةٍ من العناوين التي تصلح لأن تكونَ دروساً يُستفاد منها في لحظةٍ دقيقة تبدو فيها المنطقة والعالم يمرانِ بمرحلةٍ حساسةٍ ودقيقة أمامَ تراكمِ الملفات، تحديداً بما يتعلق بفهمِنا للعقليةِ التي تَزِينُ بها القيادة السورية نظرتَها لكلِّ الأحداث الجارية، لكن اللافت أن هذه الدروس المستفادة ليست محصورة فقط بما قالهُ الرئيس الأسد، لكن بما لم يقلهُ كذلك الأمر، فكيف ذلك؟
فيما قالهُ الرئيس الأسد وبما تتَّسع له سطور هذه المادة يتجلى أمامنا عنوانان أساسيان:
أولاً: تركيا الجارة، ليست تركيا «العدالة والتنمية»، دائماً ما تستطيع الدول الهروبَ منَ التاريخِ، لكنها حُكماً لن تستطيعَ الهروبَ من الجغرافيا.
هذه الفرضية تحققت في الكثيرِ من الأمثلة، فألمانيا وفرنسا مثلاً جسدتا الجذوةَ الأولى للاتحاد الأوربي الحالي عندما قررتا وضع تاريخ لحربينِ عالميتين جانباً، حتى الدولة الأرمينية ذات نفسها فكَّرت يوماً بذاتِ العقلية المنفتحة عندما بدأت خطوات انفتاحية على تركيا تجسدت باستقبالها الرئيس التركي الأسبق عبد الله غول، تلكَ الزيارة التي لا يزال رأس النظام التركي رجب طيب أردوغان يهاجمها حتى يومنا هذا، ويعاير بها حليفهُ السابق وخصمه الحالي عبد الله غول.
على هذا الأساس كان الانفتاح السوري التركي مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، لكن ومنذ الانغماس التركي في الحربِ على سورية بدا واضحاً أن التركي لم يستطع الخروج من العباءة «العثمانية الناتوية»، حتى إن القيادة السورية اعترفت في أكثرَ من مناسبةٍ أن ما دفعها للانفتاحِ على تركيا وتناسي فرضية أن تركيا هي دولة من دول الناتو هو التفكير بمصلحةِ الشعبين التركي والسوري، من مبدأ أن هناكَ تداخُلاً بينَ الشعبين وأن الشّعبَ التركي في النهايةِ ليس عدواً.
لكن هناك من طرَح ويطرح فكرة مقابلة تستحق الاهتمام تستند عملياً لبدهية أن هذا «الشعب الصديق» هو من أوصل ومدَّدَ كل هذهِ السنوات لرجب طيب أردوغان وحزبهِ في السلطة، أي إنهُ بالنهاية موافق على سياسات حكامه الإجرامية فكيف سيكون صديقاً؟!
هذهِ المقاربة تبدو منقوصة لأننا حينها علينا التدقيق في الأرقام والإحصائيات الانتخابية كي لا نختزل شعباً يفوق تعداده في الداخلِ فقط 85 مليون نسمة، ولو أخذنا كمثالٍ تقريبي انتخابات الرئاسة الأخيرة في العام 2018 لوجدنا الأرقام التالية:
عدد من يحق لهم التصويت قاربَ 59 مليون شخص لم يقترع منهم إلا 51 مليوناً، حصل رجب طيب أردوغان رغم الاشتباه بحالاتِ تزويرٍ وتجاوزاتٍ كثيرة على ما نسبتهُ 52 بالمئة فقط أي ما يقارب26 مليون صوت، عندها يصبح السؤال المنطقي: كيف سنتعاطى مع الشريحة المتبقية والتي تعد بالملايين وهي إما صوتت ضده أو امتنعت عن التصويت لأنها تعرف النتيجة سلفاً، دون نسيانِ فرضية من صوّت معه من مبدأ تحالف الضرورة لا الخيارات.
من جهةٍ ثانية، فإن المعارضة التركية التي فيما يبدو تقدِّم حتى الآن خِطاباً متوازناً لجهةِ العلاقة مع سورية، بعيداً عن العقلية العنصرية المتجسدة بمواقفِ «العدالةِ والتنمية» دون إغفالِ تلاقيها مع أردوغان بما يتعلق بانفصاليي الشمال السوري، وهذا منطقي لأن هؤلاء يشكلون نقطة ضعف لسورية وتركيا على حدٍّ سواء. هذه المعارضة تبدو بحاجةٍ لمن يُلاقيها في المنتصف على الطرف الآخر للحدود. لاشك أن رجب طيب أردوغان يجيد اللعب على التناقضات وعلى هذا الأساس مثلاً هو استقطب القوميين والإسلاميين بخطابه القومي والمتطرف ومجاراتنا له بخطابٍ كهذا من خارجِ الحدود سيؤدي حكماً لإضفاء صدقية لكلامه ومواقفه. هذا يعني أن الكرةَ الآن في ملعبِ الأتراك بانتظار ما ستحمله قادمات الأيام، هل سيلتقط رجب طيب أردوغان فرضية أن اللعب على التناقضات متاحٌ للجميع في أي وقت وهو يختلف عن اللعب بمصائرِ الأبرياء؟!
ثانياً: في جنيف ليس هناكَ وفد حكومي، هناك وفد مدعوم من الحكومةِ السورية منذُ أن تمَّ الإعلان عن أسماءِ الوفد المدعوم من الحكومة السورية كان هناك من يتساءل «بخبث»، لماذا يخلو «الوفد السوري» إلى لجنةِ مناقشة الدستور من اسم السفير السوري في الأمم المتحدة بشار الجعفري؟
بعض هؤلاء ذهبَ بعيداً لطرحِ فرضيةِ الحمائمِ والصقور، وأن هذهِ المناقشات بحاجةٍ لخطابٍ ليِّن قد لا يبدو بشار الجعفري قادر على تجسيدها وهو المشهود لهُ بالقدرةِ على «إخراسِ» الخصوم بخطابِ المنطق والقوة في آنٍ معاً.
كل هذه التحليلات لم تساوِ الحبر الذي كُتبت به لأن مروجيها أساساً لم يفهموا بدهية أن الخطابات والمواقف الرسمية السورية هي بالنهاية «نهج وثوابت» وليست أشخاص، وفي الوقت ذاته لم يعطوا فرصة لأنفسهم ليفهموا الهيكلية التي تم اعتمادها باختيارِ الوفد، ليأتِ كلام الرئيس الأسد واضحاً ودون الحاجة للشرح: «الطرف الأول هو الذي يمثل وجهةَ نظر الحكومة السورية، أما الحكومة السورية فهي ليست جزءاً من هذه المفاوضات».
مقاربة قد تبدو للبعضِ أشبهَ بالمتاهةِ لكنها في الوقت ذاته تعطينا مدلولات علينا تدريسها مستقبلاً في كليات العلوم السياسية تحت عنوانِ عريض: عندما تثق السلطة (الدولة) بنفسها، وبأبنائها.
مقاربة تجعلك تسأل: أي ثقةٍ بالنفس تتمتع بها هذه الدولة التي لا يزال هناك من يراهن على سقوطها لترسل وفداً لا يتضمن أعضاء رسميين في هيكليتها القانونية، ليدافعوا عن ثوابتها ووجهةِ نظرها في لحظة قد تبدو من أهم اللحظات في تاريخِ سورية الحديث. حاولت الدولة أن تنأى بنفسها عن اتهاماتِ التمسك بالسلطة ومسبباتِ بقائِها وعدم النزوع إلى الحل كما تروج «الأطراف الأخرى»، أرادت أن تقول ببساطة: كل من يمتلك الحس الوطني يمثلني كدولةٍ أياً كان وجودهُ بأي وفد لا يهم، المهم أن يضع المصالح العليا لسورية وللشعب السوري أولاً.
هذا يعني أن القيادة السورية ببساطة أعطت الثقة للحلفاءِ والأصدقاء بأنها منفتحة على كامل الأفكار التي يتداولها المشاركون طالما أنها تتمسك بوحدةِ سورية واستقلالية قرارها وشرعيةَ مطالبها لاستعادةِ أراضيها، والأهم عدم تحويلِ سورية إلى نقطةِ تجاذباتٍ وتدخلاتٍ كما يحدث في الدول المجاورة.
ربما هنا لبُّ الكلام الذي لم يقلهُ الرئيس الأسد لأن الحكمة بعدم القول والإسهاب أن الفكرةَ التي سيتم طرحها أياً كان نوعها سيتم استغلالها بطريقةٍ سلبية، وأي تصريحٍ سوري مهما كان نوعهُ سيتم استثمارهُ من قبلِ الحلف الموالي لديمقراطية جيفري فيلتمان ودستور بريمر على أنه تدخلٌ سوري في الشؤون الداخلية للدول، لتتجسد مقولة «إن الحكمة ليسَت دائماً في بعضِ ما نقوله لكن في الكثيرِ مما لا نقوله».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن