ثقافة وفن

التعصّب

د. علي القيّم :

للعلامة الشيخ كامل الغزي «1853- 1933» كتابات ومؤلفات تنويرية كثيرة تشيد بسعة ثقافته ومكانته العلمية، ويأتي كتاب «نهر الذهب في تاريخ حلب» في مقدمة كتبه وآثاره المحفوظة، ولكن خزانته تضم أيضاً ديوان شعر، والروضة الغناء في حقوق النساء، والشواذ في علم النحو، والقول الصريح في الأدب الصحيح، وقد أحسنت مجلة العاديات، التي تصدرها جمعية العاديات السورية في حلب، عندما نشرت في عددها الأخير النص الكامل لكتاب الغزي «القول الصريح في الأدب الصحيح» الذي لم يسبق نشره، وهو كتاب مبسط، يعد شاهداً على عقلية هذا العلامة المتزنة، وخبرته العميقة في الحياة والتعامل مع المجتمع بكل أطيافه وعاداته وتقاليده.
لقد كتبه بصيغة رسالة مفتوحة إلى حفيده تكون له مرشداً في سلوك المناهج، لتقيه من غدر الزمان ومكره، وقد وجدت من المفيد التوقف عند فصل «التعصب» وما فيه من تحليل وحكمة وبلاغة ودقة في الشرح.. يقول الغزي: التعصب خلة طبيعية متمكنة في نفوس جميع طبقات البشر، جليلها وحقيرها، مدنيها وبدويها، وهو على نوعين، ممدوح يجب اتباعه، ومذموم يجب اجتنابه.
التعصب الممدوح هو أن تحرص على كل ما يجلب الخير لوطنك وقومك، وأن تبتعد عن كل ما يضر بهما، وأن تتبع كل ما يرضاه العقل الصحيح ويؤيده النقل الصريح من العبادات والمعتقدات، وأن تناضل عنها المهاجم عليها وتكافحه وتحاجه وتجادله بالتي هي أحسن، فتلين له إذا حشن، وتحلم عليه إذا احتدم… ويتابع الغزي القول: من التعصب الممدوح أن تدافع عن الحق وتدور معه حيث دار، وتذعن له أينما كان، وأن تأخذ بكل شيء تريد محاسنه على مساويه، وتتعصب له، وتقف عنده سواء أكان ذلك من المعتقدات، أم كان من العادات التي اعتدت عليها في طعامك وشرابك ولباسك، وفي كل شيء يعود عليك بالصحة والمال والشرف واحترام الناس، وألا تشذ عن قومك وأهل وطنك، من أي ملّة كانوا، فيما يستحسنه عقلاؤهم وذوو الإخلاص والرأي منهم فتكون إلباً على من ناوأهم العداء، وأراد بهم السوء.
أما التعصب المذموم، فهو أن تصرّ على الباطل في معتقداتك، وما اعتدته من أعمالك التي لا يستحسنها العقلاء، كما أنها ليست من الدين في شيء، بل هي ضرب من الخرافات والعادات المذمومة والمعتقدات المغلوطة التي يتبرأ منها العقل السليم والنقل الصريح، وأن تبغض وتمقت من لم يكن على رأيك في ملته ونحلته وعاداته، ما دام غير متحرش بك، ولا متعرض لما أنت عليه من المعتقدات الصحيحة والعادات المستحسنة، فإن مغبّة فساد طريقته قاصرة عليه، غير متعدية إليك ولا ضارة بك، فليس لك أن تبغضه أو تجفوه أو تعاديه أو تدلي إليه بسوء.
هنا لابد من الإشارة إلى تعريف «معجم المعاني الجامع» للآفة التي هي كل ما يصيب شيئاً فيفسده.. تماماً كالتعصب الذي كان وما زال سبب خلافاتنا وصراعاتنا الفكرية والاجتماعية والدينية، على مرّ العصور والأزمان… التعصب، بكل معانيه انحطاط أخلاقي وفكري وديني… التعصب المذموم يدل على أن صاحبه حصل على تربية عنصرية، والدين والأخلاق بريئان منه… التعصب المذموم، هو شعور داخلي يجعل صاحبه يرى نفسه على حق، ويرى الآخر باطلاً، وهو أولى خطوات الإجرام، في المجتمعات، وما حلّ في قوم إلا وجلب معه الخراب والدمار والقتل والإرهاب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن