الأولى

بعد الحقيقة

| تييري ميسان

تعين على الإعلام الغربي، على مدى العشرين سنة المنصرمة، مواجهة المنافسة الاقتصادية التي ينشرها صحفيون ارتجاليون مجاناً على شبكة الإنترنت، ثم أعقبها وابل من المعترضين الذين باتوا يدحضون جودة معلومات وسائل الإعلام تلك، ما اضطرهم للدفاع عن أنفسهم عبر نشر مقالاتهم أيضاً مجاناً على الإنترنت، والإشارة إلى أن بعض خصومهم لا يتمتعون بالمؤهلات المهنية الجيدة ومن ثم فهم أقل موثوقية منهم.
مع كل هذا وذاك، انجذب الجمهور إلى قراءة مواقع الصحفيين المجانية، وأشاحوا بوجوههم عن متابعة مواقع الصحف التي تتطلب اشتراكاً، ولم يخف على الجمهور أنه على الرغم من مزاجية بعض المدونات، إلا أن البعض الآخر، هي على العكس، أكثر موثوقية من الصحف الكبرى.
تحاول وسائل الإعلام الأوروبية في الوقت الحالي، فرض مكافأة غير مباشرة على مقالاتهم، عبر محركات البحث التي تدفع لهم مقابل الإعلان. فنجحوا، بآن واحد، بخلق حالة من اللغط بين الصحفيين الارتجاليين والرئيس الأميركي دونالد ترامب، والإيحاء بأن كلا الفريقين يتصرفان بالطريقة نفسها على شبكة الإنترنت. فالثاني، حسب قناعة وسائل الإعلام تلك، يشجع الصحفيين الارتجاليين على قول أي شيء، ونقل أخبار مزيفة «فاك نيوز»، وهي ليست أكاذيب، بل مقاربات تشوه الواقع.
وبشكل أوضح، فقد أنشأ حلف الناتو منذ ثمانية عشر عاماً نمطاً جديداً من التواصل السياسي يمزج بين الحقيقة والكذب.
فعلى العكس تماماً من أساليب البروباغندا التقليدية التي كان قوامها تعبئة الرأي العام استعداداً للحرب، فإن النمط الجديد أصبح عماده إقناع الجماهير بعدم معارضة أي حرب، وطرح تلك الأساليب بطريقة معقدة جداً ترغم الناخبين على الامتناع عن الخوض في تعقيدات تلك الحروب.
تم توسيع هذا المبدأ، لا ليشمل الأخبار المتعلقة بالنزاعات المسلحة فحسب، بل بجميع العمليات المتعلقة بتغيير الأنظمة التي يدبرها حلف الناتو.
وتأسيساً على ذلك، أنشأ حلف الناتو في عام 2014 في إستونيا قيادة عسكرية أطلق عليها اسم «ستراتكوم كوم»، مكرسة بالكامل لتزوير المعلومات والأخبار المتعلقة بروسيا. تعمل تلك القيادة العسكرية مع اللواء 77 التابع للجيش البريطاني، واللواء 361 للشؤون المدنية في الجيش الأميركي، كما تم إنشاء قيادة موازية له داخل الاتحاد الأوروبي، مهمة القيادتين تلفيق الذرائع المعادية من خلال نشرة أسبوعية، وإرسالها بالبريد الإلكتروني إلى جميع الصحفيين الغربيين.
عملهم في الواقع، حاضر بقوة في كل ما ينشر عن «الحرب على الإرهاب»، ولعل أحدث مثال على نتائج عمل تلك القيادتين، هو الإعلان عن مصرع أبي بكر البغدادي.
ابتدأها الناتو بالإعلان عن قيام سبع طائرات هليكوبتر بنقل جنود القوات الخاصة الأميركية من أربيل إلى باريشا، ثم أتبعوها بتسريب الكثير من التفاصيل حول العملية، لكن سرعان ما أدركت الجماهير في الغرب أن حكاية وصول عناصر من القوات الخاصة مجرد كذبة، بعد أن أعلنت روسيا على الفور عدم التقاط راداراتها أي أثر لدخول تلك المروحيات المجال الجوي لتلك المنطقة. لكنها مالت، أي الجماهير الغربية، إلى الاعتقاد بأن هذه الكذبة الصغيرة، هي مجرد تفاصيل فرضتها ضرورات «الأمن القومي»، وانخرطت في مناقشة عناصر أخرى من هذه الحكاية «الخرافية» ليقينها بأنها مبدئياً صحيحة، ما جعلهم يقرون في نهاية المطاف بأن العسكريين الأميركيين، هم وحدهم الذين يعرفون حقيقة ما جرى، وأن الجمهور على قدر كبير من الجهل وعدم الشعور بالمسؤولية ليعرف ما جرى، وبذلك يبقى حلف الناتو سيد اللعبة.
على النقيض من ذلك، فقد رفض الرئيس بشار الأسد خلال لقائه قناتي «الإخبارية» و«الفضائية السورية» مناقشة تلك الحكاية برمتها. مكتفياً باعتماد الحقيقة الوحيدة التي تم التأكد منها بوساطة الرادارات الروسية، وبالتالي فهي بنظر سيادته «حكاية ملفقة».
لا تذهبوا بعيداً لمعرفة مكامن القوة التي مكنت الرئيس الأسد من مقاومة الغرب حتى الآن: فبينما كان الغربيون يكذبون على أنفسهم وعلى بعضهم بعضاً، اختلط الحابل بالنابل ولم يعودوا يميزون بين الحقائق والأكاذيب، كان الرئيس الأسد صادقاً، منطقياً في خطابه، ولم يتزحزح قيد أنملة عن ذلك المنطق طوال سنوات الحرب على بلاده.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن