قضايا وآراء

تكتل اقتصادي وسياسي وثقافي إقليمي

| أبو الفضل صالحي نيا - المستشار الثقافي للسفارة الإيرانية بدمشق

إعادة فتح معبر «البوكمال القائم» الذي يربط بين سورية والعراق رسمياً وللمرة الأولى بعد 2014م، لم يكن مجرد حدث عابر تم الإعلان عنه وبُدئ العمل به ؛ بل كان حدثاً يرمز إلى إعلان ولادة تكتل سياسي واقتصادي وثقافي وحضاري جديد قوامه إلى الآن إيران والعراق وسورية ولبنان، وهذا يمكن اعتباره الخطوة الأولى في طريق تشكيل شرق أوسط جديد في إطار مشروعنا، نحن شعوب هذه المنطقة، وليس الشرق الأوسط الجديد الذي كان الغرب بصدد تطبيقه بل أعلنوا عن قرب ولادته خلال حرب تموز 2006 وكأنه أمر محتم لا خيار لشعوب المنطقة وحكوماتها إلا الخضوع له. إذ أعلنت آنذاك وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية كونداليزا رايس من بيروت وبعنجهية بلادها المعهودة أن حرب تموز هي بمثابة آلام مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد الذي بمقتضاه كان سيجهز على حركات المقاومة في المنطقة، وكان سيتم إعادة النظر في ترسيم حدود دول المنطقة؛ حيث كان من المفترض تأسيس دول وكيانات على أساس عرقي ومذهبي واثني، يتم من خلال هذا المشروع تفكيك الدول الكبيرة والقوية تطبيقاً لمشروع برنار لوي المنظر الصهيوني الأميركي الذي قدّمه إلى الكونغرس الأميركي في ثمانينات القرن الماضي، وتم إقراره في الكونغرس وانتظرت الإدارة الأميركية الفرصة الملائمة لتطبيقه، وظنت عبثاً أن تموز عام 2006 هو الفرصة السانحة لتطبيق هذا المشروع ولكن لم يحالفهم إلا خيبة الأمل، ثمّ سرعان ما ركبوا موجة ما سمّوه بـ«الربيع العربي» ليتمكنوا من تحقيق بعض النجاحات هنا وهناك، وفي نهاية المطاف تجرؤوا على سورية ظنّاً منهم بأنها لقمة سائغة لهم بعد ما حدث لتونس ومصر وليبيا، ولكن حساباتهم كانت خاطئة في تقدير مدى تماسك القيادة والشعب في سورية، ومدى التزام حلفاء سورية في الدفاع عنها مقابل المؤامرات والدسائس بل أخطؤوا أيضاً في تقدير مدى قوة محور المقاومة، والتحالف الاستراتيجي بين مكونات هذا المحور.
أرادوا تفكيك دول المنطقة وتحويلها إلى دويلات ليسهل عليهم السيطرة على خيرات المنطقة ولكن مشروعهم هذا دفع دول محور المقاومة إلى تماسك أكثر وتقارب أوسع واعتبار أي خطر يهدد أي منهم خطراً يهدد كل واحد، بل نتج عن هذا الموقف تنسيق الجهود وتقارب سياسي واقتصادي وعسكري فيما بينهم ليتم تشكيل تكتل قوي نتج عنه قوة إستراتيجية عظمى في هذه البقعة من العالم.
الدول المكونة لهذا التحالف تمتلك المقومات اللازمة لتشكيل تكتل سياسي واقتصادي وثقافي مؤثر سيكون عاملاً مهماً في موازين القوى في العالم والمنطقة:
– شعوب هذه الدول من نسيج ثقافي واحد، يعود التواصل والترابط بينهم إلى عمق التاريخ حين كانت بلدانهم منذ آلاف سنين مهد أهم الحضارات في العالم وهم على تواصل ثقافي وحضاري فيما بينهم مما يؤمن أرضية فكرية وثقافية مناسبة تسهل تشكيل هذا التكتل ويختصر المسار إلى تفعيله.
– دول هذا التكتل تمتلك جغرافية على مساحة أكثر من مليوني كيلومتر مربع تقع على موقع جيوسياسي مهم للغاية مع عدد سكان يفوق على أقل التقدير 120 مليون نسمة وهو ما يشكل عامل قوة كبيرة له.
– أراضي دول أعضاء هذا التكتل تختزن في جوفها ويغتني سطحها وما فوقها بأهم وأثمن مصادر الإنتاج الصناعي من النفط والغاز والنحاس والحديد والزنك واليورانيوم والتيتانيوم والذهب والفضة والفوسفات والكثير من المواد الطبيعية المهمة مما سينشط التبادل التجاري مع العالم وسيكون مصدراً للثروة وأساساً لتطور وتقدم وازدهار ورخاء وراحة شعوب دول التكتل، إلا أن أطماع أميركا التي تريد السيطرة على هذه المنابع والمعادن لا تنتهي فقد قامت باحتلال العراق بهذا الهدف وخلقت الأعذار للبقاء في سورية لتسيطر على مصادر النفط والغاز وهذا ما كشف عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب علناً قبل أيام قليلة، والأمر لا يتعلق، بآبار نفط حقل عمر، في دير الزور فحسب بل بكل ما تختزنه أرض سورية ولم يعلن إلى الآن.
– دول هذا التكتل غنية بالطاقات البشرية المتخصصة والقدرات العلمية اللازمة لانطلاق نهضة علمية ومعرفية لإحياء الحضارة التي كنا بناتها وقدمناها إلى العالم فكانت الأساس للحضارة الغربية المعاصرة التي تشكلت بعد خروجهم من عصور الظلام والتخلف.
هذا التكتل سوف يتشكّل تدريجياً بلا شك مع إزالة العوائق، وهذا ما يخاف منه الكيان الصهيوني وأميركا، ولهذا منذ سنوات سعيا لمواجهته بكل ما يمتلكان من أساليب حيث لم يكتفيا بالمواجهة العسكرية والأمنية بل قاما بالمواجهة من خلال منظومة كاملة من الإجراءات في كل المجالات الاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية والسياسية لتأتي تدابيرهما ضمن إستراتيجية منع تشكل هذا التكتل.
أما نحن فلا ننظر إلى ما يقومون به باتجاه دولنا كتصرفات منفصلة بل يجب أن نفسرها ضمن منظومة المواجهة مع قيام هذا التكتل؛ فإثارة القلاقل والاضطرابات في إيران والعراق وسورية ولبنان ليست إلا جزءاً من تدابيرهم التقابلية لمنع تحقيق هذا المشروع، كذلك شن الحروب الإعلامية الشرسة والنفسية الشاملة كي تستهدف إثارة الحساسيات بين شعوبنا، أيضاً دس عملائهم ضمن جموع الشعب لإطلاق شعارات استفزازية وإيجاد شرخ بين الشعوب، هذا ما لاحظناه في مظاهرات العراق ولبنان، أما الحصار الاقتصادي ومنع تبادل طلابنا الدراسات العليا في بعض الاختصاصات بالجامعات الغربية وعدم نشر المقالات العلمية لعلمائنا ولطلابنا في مجلاتهم العلمية بداعي الحصار ومطاردة علمائنا المتخصصين في العلوم المتقدمة واستهداف واغتيال عقول وعلماء إيران والعراق وسورية ولبنان من قبل أجهزة الاستخبارات الأميركية والصهيونية وشركائهم في صمت إعلامي مريب وغيرها الكثير الكثير من الإجراءات ضد دولنا؛ كلها تأتي ضمن هذا السياق ولكن نظرة شاملة إلى ما آلت إليه الأمور توضح فشلهم في تحقق مبتغاهم وتطمئننا بمستقبل هذا المشروع الاستراتيجي المصيري للمنطقة والعالم.
إن محور المقاومة أقوى من أي وقت مضى، واستطاع أن يفشل مشروع تفكيك دول المنطقة ويحقق أعضاء هذا المحور إنجازات نوعية في شتى المجالات العسكرية والعلمية والتقنية والمعلوماتية والصناعية وهذا ليس مجرد شعار بل باعتراف المؤسسات الدولية المختصة، فالغد لنا أبناء هذه المنطقة وأصحاب هذا المشروع الحضاري؛ علينا جميعاً كدول وكشعوب وكنخب لهذا التكتل أن نركّز على تأمين مقوّمات تحقق هذا المشروع الحضاري الذي هو لصالحنا ولصالح العالم.
في هذه المرحلة تقع المسؤولية الأهم على عاتق النخب وأهل الفكر والقلم؛ فمن جانب يوجهون الرأي العام في مجتمعاتهم إلى الحذر من مؤامرات الأعداء خاصة المرتدية لباس الصديق منهم ومن جانب آخر دعم الحكومات ودولهم لوضع الاستراتيجيات والسياسات المساعدة والمسرعة لإنجاز هذا المشروع وتحقيق تشكّل هذا التكتل على أرض الواقع ومن أجل هذا يجب على نخبنا أن يتركوا النظريات المستوردة من الغرب والشرق والتي هي بعيدة كل البعد من خصائص مجتمعاتنا الحضارية والتاريخية والثقافية بل يتوجب علينا أن نعي بأننا نعيش منعطفاً تاريخياً مهماً للغاية كي نستطيع صناعة مجد مشرف لنا ولأجيالنا القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن