ثقافة وفن

من يريدُ شطب دمائنا! … كيف تعامل الفن مع الحرب وكيف تعالى عليها!؟

| أحمد محمد السّح

جلّ ما تسمعهُ اليوم في الوسط الثقافي الذي يفترض أنه هو المنتجُ الأساسي للوعي المجتمعي الساعي إلى خلق الرؤية التوجيهية غير المباشرة لتطوّر المجتمع ونموّه، هو أنهم يرفضون أي نص أو قصيدة أو مقال تذكرُ فيه الحرب، وهذه الإشارات بدأت بالظهور في نهاية عام 2018، وتم تكريسها مع بداية عام 2019 بشكلٍ أساسي وواضح، وبرز هذا مع المنتجات الفنية في المسرح والسينما والتلفزيون قبل سواها لأنها الأكثر متابعةً من قبل الجمهور، وسينسحب هذا تدريجياً على المنتج الثقافي المكتوب في الشعر والقصة والرواية وغيرها، ولكن إذا أردنا نقاش الأمر بشكل واضح من زوايا مختلفة أليس في هذا الأمر ما يشير إلى خطورة في مكامن هذا التوجّه؟ فما الحجج والبراهين التي يستند إليها رافضو السماع باسم الحرب؟

لاحاجة لاستعادة الحرب
يستند الرافضون لاستعادة رؤية الحرب في الثقافة إلى أن السوريين قد «تقرّحت قلوبهم» فهم عاشوا الحرب لسنوات متواصلة وهم لا يريدون رؤيتها في المنتج الثقافي من جديد، وهذه وجهةُ نظرٍ تستلزم الوقوف عندها، فقد استثمر العالم كله في الحرب السورية وجرّب السوريون أنفسهم في كتابة الحرب وفقاً لتصوراتهم الدرامية والسياسية، فقزموا ما يريدون وضخموا ما يريدون حسب وجهات نظرهم ومواقفهم، وصنع الفنانون كليشيهاتهم الدرامية للسياقات المفترضة من قبلهم للحرب، فكثيراً ما كانت قذيفة الهاون مثلاً حلاً لأي حبكة درامية فاشلة لتنهي القصة، (استخدمت في التلفزيون والمسرح بشكلٍ واسع، وفي الأفلام القصيرة التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما).
وكثيراً ما كان الخطف والقتلُ منطلقاً لصياغةِ حدثٍ مأساوي تتبناه الشاشة بما يتخيله الكاتب عن هذه الحوادث، وأشدد هنا على كلمة (يتخيله) لأن الوقائع التي عرضت – أو التي رأيتها على الأقل- لا تشبه الحرب إنما كانت موجهة بصيغ قسرية لتخدم الغرض المراد منها وهنا المقتل الأساس للفن، وهذا ناجمٌ عن التقييد المالي أو السياسي كثير الشجون، في مسلسل (روزنا) على سبيل المثال، الذي أنتجته المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني لعام 2018، تخيل الكاتب أن مهندس المعلوماتية – أدى الشخصية الممثل بلال مارتيني – يؤدي خدمته الإلزامية كجندي، على حين في الواقع إن المهندسين يخدمون كضباط مندبين، وهو ما لم ينتبه إليه أو يشر إليه صناع العمل على مدى ثلاثين حلقة.

صوروا حرباً يجهلونها
يبدو أن معظم الأخطاء التي حصلت أثناء نقاش تفاصيل الحرب في الفن، كانت بسبب أشخاص لم يعرفوا مجرياتِ الحرب وأحداثها عن قرب، وهذا ظهر كثيراً في مشاهد المعارك، أو السياقات العسكرية، فأغلب الذين كتبوها لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال لمختصين ممن عاشوا المعارك وقاتلوا فيها عن الزوايا والخفايا للأفعال وردود الأفعال التي تحدث بشكل تلقائي وارتجالي من قبل البشر عادةً في الحروب، فعرضت الشاشة تصورات بهلوانية للقتال والمقاتلين، وصار من الكليشيهات الدرامية أن تزغرد الأم أو أن يغمى عليها عند وصول خبر استشهاد ولدها، وما من حلّ درامي آخر، وبرز ذلك أيضاً في التخيلات عن الحياة المجتمعية في المناطق السورية التي خرجت عن سيطرة الدولة وعاشت تحت سلطة جماعات متشددة أو إرهابية أحياناً، فتم تصوير الحياة وفقاً للمادة الخبرية التي وردت عبر الشاشات ووكالات الأنباء – أي وفقاً لسياساتها التحريرية – لا عن طريق معايشتها والاحتكاك بها وبالتالي فإن المشكلة ليست في الملل من قبل الجمهور من مغبات الحرب إنما الملل من المادة الفنية التي استثمرت في الحرب دون فهم حقيقي أو دعوة حقيقية يكون الفن بموجبها مناقشاً صادقاً للأخطاء التي حدث وستحدث في الحرب السورية والحروب عبر التاريخ.

الحدث العظيم بحاجة لكتابة عظيمة
الحرب بحد ذاتها حدث عظيم، والكتابة عنها يجب أن تكون كتابة عظيمة، ولربما من الصحيح والصحي، أن تتأخر الكتابة عن الحرب، وتستمر نقاشات تفاصيلها لسنوات قادمة، لأن العقول ما زالت حامية والجراح ما زالت نازفة، إلا أن ترك هذا الحدث العظيم للإهمال سينتج عنه إنتانات ثقافية وفكرية أغلبنا يستطيع أن يتصورها، ولكنه قد لا يتصور خطورة بعدها الإستراتيجي. فتسطيح فكرة الحرب وحياة الناس وموتهم وتهجيرهم وكراماتهم من خلال منتجٍ غير لائق؛ يعدُّ أمراً خطيراً وانعدامهُ أفضل، ولكن الاشتغال على منتج ثقافي يناقش أسباب الحرب ونتائجها بعمق، ويعيش أوجاع الناس ويسعى معهم في خطوات واسعة ومهمة إلى البناء لتجاوز مصابها هو الهدف الأساسي للفن؛ في بلاد تعجّ بالتخبطات والأفكار الارتجالية التي تصيب الناس في زوايا قلوبهم وجيوبهم.

مفاصل الحروب الكونية والفن
تناقش السينما اليابانية حتى اليوم هزيمة البلاد أمام القنبلتين الذريتين، ويناقش المنتج الثقافي الألماني هزيمتهم أيضاً في الحرب العالمية الثانية، ومشكلة الانقسام التي استمرت حتى انهيار جدار برلين عام 1989، والحرب في سورية ليست حدثاً عابراً أو محدود الطيف فهذه الحرب كانت ولا تزال ستتسبب بتغير محاور العالم ووجهه، ومن لم يقتنع بذلك فليقتنع أنها غيرت وستغير وجه البلاد على الأقل، والهدف المطلوب أن نأتي بوجه سوري صادق لأنه حكماً هو الأجمل، أما الخضوع للمال الذي يقتحمُ حياتنا ممن دفع المال لتأجيج الحرب والسعي إلى مسحها قبل إعلان نهايتها، وكأنها لم تكن، وشطب دماء كل من ذهب وكأنهم موجةٌ من الرمال التي ابتعدت فهو إهانة نسمعها في المؤسسات السورية الرسمية والخاصة، وربما هو ترديد لرغبة المال الخارجي في التخلّص من هذه اللعنة التي اسمها الحرب التي عرت وتعرّي الجميع، أما المـتأنسنون الذين يدّعون أن قلوبهم الرهيفة لم تعد قادرةً على احتمالِ رؤية مشاهد الحرب والدمار التي لم تختفِ من مدن البلاد وقراها، حتى إن صور الشهداء لم تكلح ألوانها بعد، فإننا نعتذر لهم ولعواطفهم ونعدهم أن تكون الحرب القادمة أقل تراجيدية، وأميل للكوميديا، وربما نهدف إلى «نتحارب بأوراق الورد»، كما يرغب الشاعر السوري الكبير نزيه أبو عفش، مع المشاركة الصادقة لرغبته هذه، لكن الحياة هي شيءٌ آخر وللحروب مساراتها، والفن هو الذي يخلق ويغير رؤية الشعوب حتى لا تقع في مطبات أخرى تتسبب في حروب أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن