قضايا وآراء

العراق بين مشهدين

| أحمد ضيف الله

تجددت التظاهرات في بغداد ومحافظات العراق الوسطى والجنوبية مرة ثانية، وما زالت مستمرة، بعد أن كانت قد توقفت بعد سبعة أيام من انطلاقتها في الأول من تشرين الفائت، حيث لبى رئيس الوزراء في حزم ثلاث كل ما نادى به المتظاهرون من شعارات مطلبية محقة، بما فيها تلك المتعلقة بالفساد.
الموجة الأولى من التظاهرات المطلبية المحقة، جرى استثمارها وخرقها، بدفعها إلى العنف والفوضى، ما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من القوى الأمنية والمتظاهرين بين قتيل وجريح، حيث هدف محركوها إلى استدراج قوات الحشد الشعبي للتدخل في لجم هذه الفوضى، إلا أن هذا الاستدراج فشل، ولم يتدخل الحشد، رغم كل الضخ الإعلامي التحريضي بحقهم، ورغم كل الشتائم التي أطلقت في ساحة التحرير ببغداد بحق بعض رجال الدين والدعوة إلى ترحيل مراجع النجف الدينية الأربع إلى إيران لكونهم «أجانب»، وإلى مقاطعة مراسم زيارة أربعينية استشهاد الإمام الحسين بكربلاء، وهو أمر غير مسبوق، وتجاوز للخطوط الحمر، لم يقدم عليه سوى صدام حسين خلال فترة حكمه.
الموجة الثانية من التظاهرات انطلقت في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية: البصرة، النجف، القادسية، كربلاء، واسط، ميسان، المثنى، ذي قار، بابل، فور انتهاء ممثل المرجعية الدينية الشيعية في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي خطبة الجمعة في الـ25 من تشرين الأول الفائت، التي ناشد فيها المتظاهرين بالامتناع عن «المساس بالعناصر الأمنية والاعتداء عليهم بأي شكل من الأشكال»، موصياً القوات الأمنية أن «يوفّروا الحماية الكاملة للمتظاهرين (…) ويتفادوا الانجرار إلى الاصطدام بهم»، وفي تحد للمرجعية وتوصياتها ركز المتظاهرون سلسلة هجماتهم العنيفة والدامية على المنشآت الحكومية ومقرات الأحزاب والحشد الشعبي، ومنازل المسؤولين بالسلب والحرق والقتل، بعد أن تأكدوا أن قوات حفظ النظام لا تحمل أية أسلحة نارية في مواجهتهم، إلا أنهم فشلوا باستدراج قوات الحشد الشعبي للتصادم مع المتظاهرين بحسب ما كان يخطط له.
في العراق أكثر من 55 فضائية عراقية، تراخيص إنشاء أغلبها ومكاتبها الرئيسة في العراق، باستثناء فضائيات لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، تراخيصها ومكاتبها الرئيسة في لندن وأميركا والإمارات ومصر.
الفضائيات العراقية نقلت صوراً عالية الدقة لمتظاهر يقود دراجة نارية يطلق النار باتجاه المتظاهرين مرة وباتجاه القوات الأمنية مرة أخرى، وأخرى لشرطي مرور ينظم حركة السير، يطلق النار من مسدسه الحكومي باتجاه المتظاهرين ويخفي سلاحه بعد كل إطلاقة، رغم منع السلطات الأمنية كافة عناصرها من حمل أي سلاح ناري، وقد جرى اعتقالهما، كذلك عُرضت لقطات لمتظاهر يكمن خلف عامود بالقرب من مدخل جسر الجمهورية وهو يلقي قنابل «المولوتوف» الحارقة باتجاه المتظاهرين من الخلف لتشتعل النار فيهم، كما بثت عملية القتل البشعة للقيادي البارز في «عصائب أهل الحق» وسام العلياوي، التي أظهرت هجوم متظاهرين برفقة مسلحين بكامل عتادهم الحربي على مقره في محافظة ميسان وحرقه، ومن ثم حرق سيارة الإسعاف التي أقلت الشهيد الجريح برفقة أخيه، والتمثيل بجثمانيهما المحترقين بعد سحبهما من سيارة الإسعاف. مشاهد كثيرة بشعة ومؤلمة تناقلتها هذه الفضائيات.
بالمقابل، تجاهلت الفضائيات صاحبة التراخيص الخارجية تلك الأخبار الدقيقة، خاصة بعد إغلاق العراق مكاتب فضائيتي «العربية» و«العربية الحدث» السعوديتين، ومكاتب فضائيتي «الحرة عراق» و«الحرة» الأميركيتين، ناقلة أخباراً كاذبة، وصوراً مفبركة، كتلك التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي بشأن وقوع «مجزرة» في كربلاء ليل الـ29 من الشهر الماضي ومقتل 20 متظاهراً، التي تبين في اليوم التالي أن المحافظة لم تشهد سقوط أي قتيل في تلك الليلة، عدا عن تكذيبها وتشكيكها المستمر بالإصلاحات الحكومية المتخذة.
مما يثير الاستغراب في هذه الأجواء المشحونة، أنه لم تخرج تظاهرة واحدة في أي من المحافظات الغربية «الأنبار، صلاح الدين، نينوى» ولا من محافظات إقليم كردستان «دهوك، أربيل، السليمانية، حلبجة»، إذ كما يبدو أن المواطنين فيها لا يعانون من الفقر أو البطالة أو من سوء الخدمات والفساد! كما أنهم غير منزعجين من وجود الجيش التركي في بعشيقة التي تبعد نحو 12 كيلو متراً عن مدينة الموصل! ولا من حركة القوات الأميركية باتجاه سورية والعودة منها بشكل شبه يومي، وكأن مناطقهم ثكنة عسكرية أميركية، فالغضب العراقي منصب فقط على النفوذ الإيراني في العراق!
إن الدور التحريضي والتخريبي الذي تقوده أميركا وبريطانيا في العراق بأدواتهم الخليجية ليس خافياً على أحد، وكارهو العملية السياسية في العراق لا يتوجعون من جعل جموع الشباب الفقير حطباً لمحرقة رتبوا لها، مستغلين حالة النقمة التي يحملها المواطن العراقي تجاه الفشل في تقديم الخدمات ومستلزمات العيش الكريم له.
من المحزن سقوط كل قطرة دم عراقية، سواء كانت من المتظاهرين أم من القوات الأمنية، ومسؤولية الدماء الغزيرة التي أريقت في رقبة القطريين والإماراتيين والسعوديين وحماتهم فكلهم في العهر سواء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن