ثقافة وفن

هرمينوطيقا.. سرد ما بعد الحداثة…. دراسة في ثلاثية «معرض مؤجل» الروائية لهزوان الوز

| جُمان بركات

طرح بول ريكور مشروعاً سردياً كبيراً ومعقداً يجمع بين الأنطولوجيا والتاريخ والهرمينوطيقية والسرد والهوية السردية والمتخيل التاريخي والسيري، وفي هذه التوليفة المتنوعة والمختلفة عمل على البحث عن نقطة تجمع بين هذه الحقول على أساس المغايرة والتماثل، ولكن النقطة التي تجمعت بها عنده وشكلت المشترك هي عنصر الزمان، وحاولت الفلسفة الريكورية أن تقاربه من حيث آليات الكوني والنفسي والاتصال والانقطاع وفي الخطاب التاريخي والسيري حيث تجلى في فعالية إحضاره وإعادة إنتاجه من جديد على أساس منطق الذاكرة والتوثيق أو الأرشفة، لكن المشروع الريكوري المخالف على هذا النحو تمثل في تحويله لمشكلة الزمان من إشكالية أنطولوجية إلى إشكالية سردية عمادها النصوص السردية المختلفة.

«معرض مؤجل»
اختار الباحثان العراقيان د. محمد صابر عبيد ود. محمود خليف خضير الحياني ثلاثية د. هزوان الوز «معرض مؤجل» وقدما كتاباً نقدياً بعنوان «هرمينوطيقا… سرد مابعد الحداثة» –الصادر عن دار كنانة-والذي جمع بين السيرية والسردية، فكانت هوية سردية اشتغلت على أسس توسطية تبلورت في مقولة المتخيل التاريخي، إذ انطوت هذه الثلاثية على أبعاد جمعت بين الهوية والانتماء واللاانتماء والحب والواجب والجسد والروح والاغتراب واللااغتراب والدين واللادين، شبكة من المفاهيم حملت مشكلة وطن وهموم شعب تحدى كل الصعاب لكي يستمر في إنتاج معنى الوطنية الذي أحبته شخصيات في مجريات أحداث هذه الثلاثية الروائية، بكل ما يحمله واقعها من هموم وألم ومعاناة وقناعات وأسئلة وسياقات فكرية ورؤيوية وعقائد وتمردات وشطحات.
في رؤية منهجية عنوانها «هرمينوطيقية سرد ما بعد الحداثة» قدم الباحثان ثلاثة مباحث، الأول الهرمينوطيقا لغة واصطلاحاً والذي يتلخص بمصطلح التأويلية المستجيب لمشروعية القراءة السردية أو سرد ما بعد الحداثة، ويقوم على أساس فلسفي وأنطولوجي بعيداً عن تعالقه مع المصطلح العربي المقابل للتأويل المرتبط بالجانب الديني أو اللاهوت العقائدي وهو ما يخالفه المنظور الجديد لمصطلح الهرمينوطيقا الذي تنصهر فيه الأبعاد الوجودية والظاهراتية والرمزية بالنسبة لما يرتبط بفلسفة ريكور على الأقل.
والمبحث الثاني «سرد مابعد الحداثة» التي تعمل على تجاوز الشخصية الفيزيقية أو التاريخية المتماهية مع الواقع لتتحول إلى مدلول يبعدها عن الوضوح والوصف، والسردية بوصفها وسيطاً يمكن تأويله والوصول عن طريقه إلى فهم الذات.
والثالث «المتخيل التاريخي: الطريق الملتوي للهرمينوطيقا»: عندما حاول ريكور البحث عن تجسيدات الزمان وجد أنه يتم التعبير عنها في التاريخ وكذلك في السردية.

رواية الأجيال
«رواية الأجيال» مصطلح ألحق بشبكة المصطلحات التي توصف أنواع الرواية الحديثة استناداً إلى استجابتها لضرورات تقانية وموضوعية مختلفة، بعضها اضمحل أو لم يلق بالاً على المستوى التداولي والبعض الآخر أثبت حضوره. إن فكرة تعاقب الأجيال وهي تمثل حياة متكاملة للمجتمعات والعصور ترصد التحولات والتطورات التي تحصل في حضور كل جيل جديد، إذ تسهم «رواية الأجيال» على هذا النحو في حساب الحياة الإنسانية عامة في تطورها وتغيرها الدائمين ضمن إطار الزمن الحسابي، إضافة إلى مقاربة أزمان وأمكنة وأحداث وقيم إنسانية متعددة وكثيفة لتمثيل عالم شاسع ومتعدد ومتنوع، وتخلق عالماً روائياً خاصاً.
تنتمي رواية هزوان الوز «معرض مؤجل» بأجزائها الثلاثة «اللوحة الناقصة، اللوحة الضائعة، اللوحة الثالثة» لما يصطلح عليه «رواية الأجيال» التي تتألف عادة من أجزاء عدة، كل لوحة هي عبارة عن «موصوف» خبري مسند إلى صفة خاصة به، حيث تتكامل الصفات لأجل الاستجابة للرؤية السردية العنوانية التي تشتغل عليها الرواية، وهذا السرد المثلث للرواية يعكس أهمية هذا العدد في الثقافة الإنسانية منذ أقدم العصور، لكنه في الرواية يسعى إلى استيلاد معنى جديد للعدد قائم على تفاعل الصفات وتكاملها في منظومة سيميائية متوالدة.

السرد
جاء الفصل الأول للكتاب بعنوان «الحياة نقطة رسو سفينة السرد» وفيه يحكي عن تفكيك العلاقة بين الحبكة والحياة في ثلاثة مباحث الأول: يعالج الباحثان فعل الحبكة بوصفه نصاً مؤولاً عند هزوان الوز الذي ينظم الأفعال السردية في روايته باختياره قضية الاستلاب والخوف بوصفهما علامتين أو تابوهين ينظمان علاقة الشخصيات مع العالم أو الحياة، ففي إشارته إلى الاستلاب وما يفعله الخوف وتسلط القوة يكشف عن طبيعة هذه الرؤية ومستويات تأثيرها.
وينطلق المبحث الثاني بعنوان «الزمان والبيئة ثالوث المحاكاة» من ثلاث حكايات في ثلاث بيئات مختلفة، هذه البيئات «الشامية والأميركية والبيئة المؤدلجة» تعمل على تأطير الزمان والمكان في الرواية، وفي رواية هزوان الوز تشتغل البيئة المؤدلجة الحاضرة أيديولوجياً داخل المقولة السردية الغائبة مكانياً أو جغرافياً، وهي الشيوعية التي شكلت لحظة من المعايشة لكل أفكارها، والتي لم تطبق في جميع مساحات الرواية إلا في بيت رامي على مستوى التمثل الفكري والسلوكي المقيد في حدود مكانية وفكرية.
والمبحث الثالث جاء بعنوان «السرد بوصفه فهماً أنطولوجياً» ويركز فيه الباحثان على الفهم الأنطولوجي في «معرض مؤجل» الذي يتخذ أبعاداً كثيرة، وأهمها العناية بالجانب السيري الذي أطلق عليه ريكور الهوية السردية.

حارس الزمان
يتطرق الفصل الثاني «السرد حارساً للزمان» إلى أن الزمان قضية ديمومة، وهناك من ذهب إلى أنها فواصل وانقطاع، وبعضهم حددها بمفهوم التناهي واللاتناهي أو بوصفها بعداً رابعاً للمعرفة أو الوجود.
إن التجربة الإنسانية التي يمثل وعاءها الزمن يتم اختزالها في تجربة قصصية في ما يمكن أن تتحدد بلحظة التصوير السردي، ولا يمكن التفكير في الزمان أو الوجود إلا بوساطة السرد، وعلى هذا الأساس فإن الزمان يتجلى في مصطلحات ترتبط بالذاكرة والنسيان والتاريخ وعالم السرد.
يرصد الباحثان في المبحث الأول من الفصل الثاني التجربة السردية والذاكرة، ويأتي الثاني لمعاينة ماوراء الحبكة المأساوية، أما في المبحث الثالث فتتم معالجة أنطولوجيا الحب والواجب.
أما الفصل الثالث فقد جاء عرضاً للمتخيل الزمني في ثلاثة مباحث: الرغبة والعبثية، وسيزيفية متعة الجسد وسقوطه والمتخيل التاريخي: الأيديولوجيا واليوتوبيا.

في الختام
تحاول الفصول الثلاثة أن تستعير رؤية بول ريكور بمرجعياتها الفلسفية السردية على هذه الثلاثية الروائية لهزوان الوز، في سياق معالجة نقدية تسعى إلى الجمع بين المسار الفلسفي والمسار السردي إذ حاول ريكور تطوير فكرة المتخيل التاريخي على نحو خاص.
إن نقطة ارتكاز السرد في الحياة في ثلاثية هزوان الوز ارتبطت بقدرته على تشغيل أحداث الحبكة لمصلحة الفعل، ومايشير إليه من دلالات كثيرة شرحت واقع الحياة الذي يتصف بجوانب بعيدة عن الإنسانية، ارتبطت في سياق مركزي باحتقار الفقر والضعف وتعظيم الغنى والقوة والسلطة، وهذا ما يمكن أن يؤول على أساس أنه لايوجد هناك احترام للأنسقة الإنسانية ومعانيها التي وجدها رامي في الفن والجمال والحرية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن