قضايا وآراء

النظام الإقليمي.. أقل من الحرب المباشرة وأكثر من تسوية

| محمد نادر العمري

هي أكثر المراحل التي تمر بها المنطقة حساسية «إن صح التوصيف» رغم ما تحقق من إنجازات عديدة شهدتها جولات الاشتباك السابقة بين محور المقاومة والولايات المتحدة الأميركية، غير أن هذه الإنجازات لم تدفع محور واشنطن وحلفائها وبخاصة تل أبيب نحو التسليم بالأمر الواقع، بل دفعتهم نحو تكتيكات ووسائل قديمة جديدة بهدف إفراغ هذه الإنجازات من مضامينها وخلط الأوراق للبحث عن أدوات تأثير سياسية وإبقاء هامش من النفوذ على المشهد السياسي.
ووصف المرحلة بأنها حساسة ودقيقة ليس لأن المنطقة تقف على حافة الهاوية من احتمال اندلاع حرب أو تسوية تحضر على نار هادئة، بل لأن ما يراد لهذه المنطقة وفق المنظور الأميركي أن تكون حبيسة هذين الخيارين على الأقل حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية نهاية العام القادم واتضاح توجه الإدارة الجديدة، وهنا سنذكر دلائل ثلاثة على ذلك شهدتها الجغرافية المتصلة من الأراضي المحتلة ولبنان وسورية والعراق:
التطور الأول ويتمثل بالسلوك الأميركي المتقلب في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية، والذي يؤكد أن عدم وجود إستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية تجاه سورية قد يفهم منه وجود تناقض واختلاف بين إدارة البيت الأبيض وباقي المؤسسات وخاصة صقور الإدارة العسكرية، ولكنه في الوقت ذاته فإن غياب الإستراتيجية قد تكون إستراتيجية بحد ذاتها، فهي إن تبنت إستراتيجية المواجهة فهذا يعني أنها تعلن الحرب على روسيا وسورية وإيران بصورة علنية، وأن تبنت إستراتيجية الانسحاب الكامل فهذا يشير إلى أنها تتخلى عن هيمنتها ونفوذها على مستوى النظام الإقليمي لمصلحة روسيا ومحور المقاومة، وهذا سيكون له تداعيات أشمل على النظام الدولي، لذلك تعتمد على تكتيك التناقضات والسعي لخلق مناخ تضمن به الولايات المتحدة الأميركية تعطيل المسارات التي تتضمنها العملية السياسية، بما يخدم مصالح ترامب وإدارته أولاً لتحسين تموضعه الداخلي قبل الانتخابات، وثانياً الاستمرار بالابتزاز المادي، ثالثاً الحفاظ على مستوى الفوضى القائمة على تعدد الأطراف المتناقضة من حيث المصالح والمواقف والأهداف كما هو الحال في التأثير على مسار قسد المتقلب بين استمرار التنسيق مع الأميركي واستكمال صيغة التفاهم مع الحكومة السورية وتوظيف ذلك من تركيا لتبرير عدوانها وإيجاد مبررات له، وهذا التطور الميداني ليس بعيداً من نظيره السياسي الذي بدأ يشهد حراكاً بعد سبات سريري عبر إطلاق عمل لجنة مناقشة الدستور، لذلك فإن الأحداث القادمة ستحمل مناورات أكيدة، ويتمثل ذلك في:
1- قبول رئيس النظام التركي رجب أردوغان بزيارة واشنطن ولقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد الإهانة التي وجهها له الأخير بوصفه بالأحمق وإدانة تركيا بمجازر «الأرمن»، تحمل بعدين: الأول الحاجة المشتركة لكلا الرئيسين لهذا الاجتماع في تخفيف حجم الضغوط الداخلية عليهما فأردوغان يريد وقف العقوبات الاقتصادية، وترامب يريد مراضاة جميع خصومه في الداخل والذين يطالبونه بالحفاظ على احتواء الشريك الأطلسي وحماية حلفائه الكرد في الوقت ذاته، أما البعد الثاني فإن الجانبين يريدان إيجاد هامش مناورة فيما يتعلق بالشمال السوري للحصول على تنازل من روسيا أو سورية أو بفرض أمر واقع يمنع سورية من استعادة سيطرة كاملة على أراضيها بهذا التوقيت.
2- رغم الإيجابية التي شهدتها أجواء انطلاق عمل لجنة مناقشة الدستور وتمكن المبعوث الدولي غير بيدرسون من تحقيق خرق شكلي في عقدها ومرونة في إدارة جلساتها، إلا أن ذلك قد يكون مجرد وسيلة لإحداث مناورة سياسية يمكن واشنطن من إحداث إنجاز سياسي، وما حصل في الجولة الأولى من اقتراحات للوفود المعارضة والمتعلقة بتقسيم العمل نحو لجان متعددة ورفض تصنيف تركيا بالمحتلة ووضع فترة زمنية لإنجاز عمل اللجنة لا يتعدى مرحلة «جس النبض»، حيث من المرجح أن نشهد خلال الجولات القادمة كشفاً للنيات بشكل واضح وصريح وبخاصة فيما يتعلق بمقام الرئاسة وصلاحيتها وشكل نظام الحكم وهوية سورية ومواقفها وتحالفاتها، فالعامل الخارجي موجود وله تأثير وإن كان هذه المرة خارج أروقة قاعة الاجتماعات ومحيطها، ولقاء المبعوث الأميركي الخاص لسورية جيمس جيفري مع ما يسمى الائتلاف أثناء زيارته الأحد الماضي لتركيا تصب في هذا الإطار.
3- إعادة تموضع وانتشار قوات الاحتلال الأميركية في 6 نقاط وقواعد جديدة في الشمال الشرقي من سورية واستثمار مقتل زعيم داعش الإرهابي أبو بكر البغدادي يكمن في تحقيق هدف انتخابي داخلي لترامب ويشكل رضوخاً للمرة الثالثة أمام اللوبي الإسرائيلي ومؤسسات الدولة العميقة، بالإضافة لهدف اقتصادي يتضمن الاستمرار بسرقة النفط السوري، تحت مبررات عديدة، وحرمان الدولة السورية من الاستفادة منه لكسر الحصار المفروض عليها، وفي الوقت ذاته كمساومة أميركية للحصول على امتيازات اقتصادية في مرحلة إعادة الإعمار وهذا ما يمكن فهمه من تلميحات ترامب سواء بذكر مصطلح «الحصة» أم بذكر اسم شركة «إكسون موبييل».
التطور الثاني يكمن في المبالغات التي تقدمها إسرائيل وقلقها المتنامي وبشكل سريع بعد إعلان ترامب انسحاب قواته من سورية، باحتمالية اندلاع حرب مع إيران ومحور المقاومة، حتى إن السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن مايكل أورن سرب في مقال له بمجلة «أتلانتيك» الأميركية، سيناريوهات الحرب التي تمت مناقشتها في جلستين «للكبينت» الإسرائيلي واصفاً هذه الحرب «إنها ستدمر كل شيء»، بتوقيت سياسي غير بريء أبداً فضلاً عن حصوله على هذه المعلومات ونشرها وتسريبها بهذا الشكل من دون رقيب وبعيداً من أي سرية، وذلك بهدف:
– إظهار الحاجة الإسرائيلية لبقاء القوات الأميركية في المنطقة وخاصة على الحدود السورية العراقية، وقيام اللوبي الإسرائيلي في أميركا بالضغط على الحلقة الضيقة والمؤثرة في صنع القرار بالبيت الأبيض لاحتواء قرار الانسحاب وزيادة إجراءات الضغط المفروضة على إيران، وللحصول على المزيد من الدعم المادي والسياسي والعسكري من أميركا والدولة الأوروبية.
– لتبرير التوجه الإسرائيلي مستقبلاً نحو شراكة إستراتيجية مع روسيا تضمن أمنها، إن لم تسارع واشنطن لتوقيع «معاهدة الدفاع المشترك» مع تل أبيب على الرغم من أن الاتفاقية تكبل سلوك إسرائيل في المنطقة ولكنها تفرض حماية كاملة لكيانها أميركياً.
– لها أهداف داخلية مفادها رغبة رئيس الحكومة الإسرائيلية «بنيامين نتنياهو» في تكبيل (بني غانتس) بتحديات تعيق تشكيله للحكومة بهدف الذهاب نحو انتخابات ثالثة يتراجع بها منسوب التأييد لحزب (أزرق أبيض) مقابل تدعيم موقف اليمين المتطرف.
وبينما يمثل إدارة الصراع الطبقي القائم على حركات الاحتجاج التطور الثالث والذي لا يقل خطورةٍ عن الاستهداف العسكري أو السياسي وحتى الاقتصادي، بل ربما يمثل العامل الأخطر لأنه يستهدف داخل دول محور المقاومة ونسيجها الاجتماعي وتماسكها، وهو يصنف ضمن حروب الجيل الخامس الذي تديره واشنطن في العراق ولبنان وحتى سورية التي توظف واشنطن مطالب ميليشيات قسد الانفصالية لهذا الغرض واستمرار تأثيرها في قسد يتضمن أحد جوانبه السعي لحصول اشتباك دموي بين قسد التي تُقدم على أنها مكون كردي مع الجيش السوري لتبرير التدخل الأميركي تحت مسمى «حماية الأقليات»، فضلاً عن أن العقوبات الاقتصادية على لبنان والتغلغل الأميركي في العراق من الدستور حتى التأثير في مؤسسات الدولة ساهم باحتجاجات محقة لشعبي الدولتين يراد بها الباطل من القوى الخارجية، بهدف الضغط على العراق لفك ارتباطها مع إيران واتخاذ أراضيها نقطة استهداف لأمن الأخيرة وللقبول بإقامة قواعد أميركية جديدة بها واستهداف حركات المقاومة، وفي الوقت ذاته فإن زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بامبيو للبنان في نيسان الماضي ووضعه الشعب اللبناني بين خيارين إما عزل حزب اللـه أو تجويع اللبنانيين لا تزال في الذاكرة الحية.
ولكن علينا ألا نغفل أن حكومات محور المقاومة لم تستطع أن تجاري الإنجازات العسكرية والسياسية في سياستها الداخلية، وتأخرت في أولوية محاربة الفساد الذي يشكل بوابة عظيمة لتغلغل الخارج وهذا يذكرنا بلقاء الرئيس بشار الأسد مع قناة الميادين في عام 2013 عندما أكد أنه «لولا الثغرات الداخلية لما تمكن الخارج من الدخول إلينا»، فالمسارعة نحو إنجاز إصلاحات ومحاربة الفساد ومسألة الشفافية وتحسين الواقع الحياتي بالإمكانات المتوافرة هي باتت اليوم قدراً وحاجةً في آن واحد، والحفاظ على قوة الشجرة ونموها يتطلب تقليب تربتها بين حين وآخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن