ثقافة وفن

الرحابنة وحكمة الحياة..

| إسماعيل مروة

من حسن الطالع أن ما حضرناه شخصياً، أو ما سمعناه وكنا نحرص على سماعه في أشرطة كاسيت أيام زمان ما يزال محفوظاً، وفي كل صباح تتحفنا بعض المحطات التي تحتفظ بالعبق الرحباني والفيروزي بمسرحيات أو مقاطع مسرحية إضافة إلى أغنيات متفرقة، وكلما استمع الواحد منا إلى مقطع مسرحي أدرك عمق هؤلاء المبدعين الرحابنة، فهم خرجوا من الأرض ليكونوا خميرة الأرض، وخميرة لها.
وكم يؤثر في المتلقي اليوم مقطع مأخوذ من الأمير فخر الدين، أو يعيش، أو جبال الصوان، أو بترا التي تحكي حكاية الأرض والناس والشعب في مواجهة المحتل الروماني القادم.. قُتل مدلج وبقيت غربة، لِمَ تم قتل مدلج؟ لأنه قوي يريد السلطة، والأرض لا تسع اثنين يطمعان في السلطة، غربة ترى أن الأرض كانت أمانة في عنق مدلج، تحمل الأمانة، وتحاور الحاكم في نهاية العمل، فإما أن ترحل أو تقتل، وهي تعرض عليه الرحيل، وكلاهما يدّعي أحقية، هي تتحدث باسم جموع تمشي وراءها، وهو يحكي باسم حكم صار بيده ولا يريد التنازل عنه تحت أي سبب.
وتتكاثر الأرض، ويتناثر الناس، ويتحول مدلج إلى رمز للناس والحرية، وكل من لا ينتمي إليه صار يحمل اسمه وعلامته ودعوته.. تقف الصخور، تقف الرمال في وجهه، وتعجز النار عن حصد المزيد من الناس، وعن إنهاء رواية جبال الصوان، وما كان من صرخة للكبير أنطون كرباج على نهاية جبال الصوان، كان صرخة نهاية له.. لينتهي إلى أن الصراع على السلطة ليس أكثر من نوع من العبث، هذا العبث الذي لا نهاية له، ولا يمكن لأحد أن يحدد نهاية له، وكيف تكون النهاية، والحياة بجملتها صراع بين خير وشر؟ وأين يمكن أن تحلّ الخاتمة، وكلا الطرفين يرى أن الحق إلى جانبه؟ أو أنه يمثل الجانب المشرق والآخر هو المظلم؟
قدم الرحابنة مسرحاً، قدموا فكراً، قدموا دلالات، فهل الغربة التي حملتها السيدة فيروز اسماً لها في المسرحية هي غربة حقيقية أم غربة روحية؟ وجميلة التي تخاطبها هل هي جميلة حقاً أم إنها جميلة بالمآل، وهي التي تخاطب غربة بأنها تحبها، وصارت حريصة عليها أكثر من الأرض والنفس؟ وهل مدلج ظلمة؟ أم إنه انتهى في الظلمة.
وهل الدماء التي وعد بها كرباج ولم يستطع أن يحققها هي ذاتها دماء الشهداء التي تسقي الأرض من طهرها لتزهر وتنمو وتخرج من جديد؟ من كل قطرة دم يخرج إنسان، ويحيا آخر ليكون شاهداً وشهيداً؟ لا يعفيه ما يقوله من أن الطرحات السوداء ستملأ جبال الصوان!
الدم والشهادة لا يزهران سواداً، وإنما يزهران فجراً جديداً، ونوراً ساطعاً، وهذا ما جعل المتمترسين لقتل أهل جبال الصوان يتراجعون عن فعل أي شيء، ليس لأنهم رحماء، بل لأنهم أدركوا كما يقول فاتك الحاكم أن الأمر لن ينتهي، وسيخرج الكثيرون من التراب وخلف الصخور.. لتعود رحلة العبث!
سمعنا وما وعينا.. وأبدعوا ورحلوا، وما نزال نصمم على أن تكون رحلتنا في الحياة تحت مسمى العبث، بدل أن تكون تحت راية الحب والمتعة بانتظار انطلاق روح في آفاق لا يدركها سوى الملهمين من أمثال ابن الفارض والرحابنة وفيروز وابن عربي وكمال ناصر أتيت أحمل جثماني على كتفي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن