ثقافة وفن

إيبلا المملكةُ التي غيّرت التاريخَ الإنساني … أول معاهدة سلام عقدت في مملكة إيبلا

| المهندس علي المبيض

تتميز سورية بموقعها الإستراتيجي المهم الذي منحها منذ فجر التاريخ العديد من نقاط القوة لتصبح قوة اقتصادية وعسكرية مهمة حيث ساعدها موقعها الجغرافي من السيطرة على شبكة الطرق التجارية التي تربط القارات الثلاث وتصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، كما أن الأهمية الإستراتيجية لموقع سورية هيأ هذه المنطقة لتكون نقطة جذب هامة تستقطب شرائح متنوعة من مجتمعات البلدان المجاورة من التجار والمثقفين والفنانين، وساعد ذلك بشكل كبير على نشوء وازدهار العديد من الممالك والحضارات القديمة التي قامت على أرضها مملكة ماري، أوغاريت، إيبلا، أفاميا، تدمر، الممالك الآرامية.. وغيرها والتي لعبت دوراً رئيسياً في كتابة التاريخ الإنساني في سورية والأقاليم المجاورة.
إضافة إلى ذلك فقد امتلكت هذه المنطقة العديد من الأدوات التي مكنتها من نشر ثقافتها وأفكارها وعلومها وفنونها على مساحات جغرافية واسعة وخلال مراحل زمنية طويلة، وساعدها في ذلك إشرافها على البحر الأبيض المتوسط والذي مكّن السوريين من الوصول إلى سواحل ومدن أوروبا وإفريقيا، وهنا نجد أنه من المفيد الإشارة إلى أمرين اثنين في غاية الأهمية:

الأمر الأول: إن تعاقب الحضارات والثقافات على سورية لم يفقدها هويتها الحضارية وانتماء سكانها إلى أصل واحد وهو ما يظهر بوضوح من خلال اللغات التي تكلّم بها السوريون إذ إنها تظهر تشابهاً كبيراً في المفردات والصرف والقواعد اللغوية وغيرها ويتضح أيضاً من خلال المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد التي كانت سائدة.
الأمر الثاني: أن سورية قد استطاعت تحقيق وحدة حضارية وثقافية متكاملة امتدت خارج حدودها الطبيعية وهذا ما يتضح جلياً عند دراسة التحولات التي طرأت على المجتمع الروماني على سبيل المثال عندما تعاقب السوريون على حكم الإمبراطورية الرومانية لدرجة كبيرة حيث عبر عن ذلك الشاعر الروماني جوفينال الذي عاش في أواخر القرن الأول الميلادي عندما قال:
«إن نهر العاصي يصب في نهر التيبر منذ زمن بعيد حاملاً معه لغته وتقاليده وثقافته»
(نهر التيبر هو ثاني أطول نهر في ايطاليا ويرتبط تاريخ روما بتاريخ هذا النهر الذي يخترق العاصمة الإيطالية ويصب في البحر الأبيض المتوسط).
وإذا استعرضنا الممالك القديمة المهمة التي قامت في سورية وأحدثت أثراً كبيراً في التاريخ الإنساني نجد أن مملكة إيبلا تأتي في مقدمة تلك الممالك، وتعتبر مملكة إيبلا مملكة عريقة وقوية قامت في شمال غرب سورية وتعتبر العاصمة الكبيرة لشمالي سورية، ويعرف موقع مملكة إيبلا حالياً باسم تل مرديخ الذي يبعد عن مدينة حلب مسافة 55 كم من الجهة الجنوبية الغربية بالقرب من بلدة سراقب التابعة لمحافظة إدلب، ويذهب بعض الباحثين إلى أن اسم إيبلا مشتق من كلمة عبلاء بالعربية وتعني الصخرة البيضاء وهذا يتطابق مع طبيعة ولون التربة في تل مرديخ ولكن يبقى هذا التحليل في مجال الفرضية. تبلغ مساحة تل مرديخ نحو 560000 م2 ويأخذ شكل شبه المنحرف، يعود تاريخ مملكة إيبلا إلى الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد وبلغ عدد سكانها في أوج ازدهارها 250000 نسمة. وبسطت مملكة إيبلا نفوذها على مساحة واسعة حيث غدا من الصعوبة تحديد خريطة نفوذ مملكة إيبلا بدقة، إذ إن بعض المدن كان يديرها أحد قادة إيبلا ثم ينصّب نفسه ملكاً عليها وبعض المدن يحكمها رجل من أهلها ويرتبط بمعاهدة سياسية مع إيبلا كما كان يتم مع آشور وحماة، وبعض المدن كانت تخضع لنفوذ إيبلا عن طريق دفع الجزية مثل مدينة أكاد عاصمة الأكّاديين في بلاد الرافدين، إلا أنه يمكن القول إن المناطق التي تحكمها إيبلا امتدت من نهر الفرات شرقاً حتى سواحل المتوسط غرباً ومن طوروس حتى منطقة حماة، وامتد نفوذها شمالاً حتى بلغت الأناضول وسيطرت على طرق التجارة باتجاه البحر الأبيض المتوسط، وكانت تعتمد إيبلا على أسلوب التوسع للسيطرة على التجارة حيث كانت مدينة ماري خلال فترة من الفترات خاضعة لها، وكان ميناء مدينة أوغاريت تؤمّه السفن التي تحمل الذهب إلى إيبلا، كما أقامت إيبلا علاقات تجارية مع جزيرة قبرص الغنية بالنحاس.
عمل سكان مملكة إيبلا في الزراعة والصناعة والتجارة فقاموا بزراعة الزيتون والكروم واستخراج زيت الزيتون واهتموا بتربية الأغنام والأبقار وتدجين الحيوان كما نشط أبناء مملكة إيبلا في صناعة الأنسجة التي تعتمد على صوف الأغنام، وانتشرت هذه الصناعات في بقية المدن السورية والممالك التي ظهرت لاحقاً وتطورت هذه الصناعة وتم إدخال الأصبغة الملونة عليها وكانت هي أساس صناعة البروكار التي اشتهرت بها سورية وأصبح جزءاً من الموروث الشعبي والصناعات التقليدية السورية.
وتحدث الكثير من النصوص التي تم العثور عليها في مصر القديمة عن شهرة مملكة إيبلا في تجارة أخشاب شجر السرو والصنوبر والسنديان والدلب والتي كانت تحصل عليها من غابات جبال طوروس والجبال الساحلية، وراجت فيها فنون الترصيع بالأحجار الكريمة النادرة.
بنيت مدينة إيبلا بشكل منظم وفق أسس تخطيط عمراني متطور قياساً لتلك الفترة ما يعكس ثقافة وتمدن المجتمع في إيبلا وزوّدت المملكة بأنظمة للري والزراعة وتخطيط الطرق، وتتكون المدينة من القصر الكبير والقصر الجديد والقصر الشمالي وركن معبد عشتار ويحيط بالمدينة سور وعدة آبار تم العثور فيها على عدد كبير من اللقى الأثرية المهمة من تماثيل وأباريق وكمية من الطاسات وأساور وحلي مصنّعة من معادن ثمينة وأحجار كريمة.
عثر في قاعة الأرشيف الملكي في إيبلا على مكتبة تعد إحدى أهم وأقدم المكتبات في المنطقة إذ تم العثور فيها على عدد كبير ومهم من الرقم الطينية والوثائق التي تبرز أهمية هذه المملكة ودورها الرئيسي في تلك الفترة حيث بلغ مجموع الرقم الفخارية المكتشفة نحو 17000 لوح فخاري تشكل بمجموعها المحفوظات الملكية، ويمكن من خلال دراسة تلك الوثائق وتحليل المعلومات الواردة فيها من قراءة تاريخ كامل المنطقة، يمكن تصنيف الوثائق المكتشفة في مملكة إيبلا إلى الأقسام التالية:
وثائق تتحدث عن النشاطات الاقتصادية المختلفة الزراعية والصناعية والحرفية والتجارية وتصنيع النسيج وتوزيعها داخل مملكة إيبلا أو تصديرها إلى البلدان والممالك المحيطة بها ما ساهم بالتعرف إلى علاقات إيبلا مع الممالك الأخرى وعلى حجم إنتاجها الصناعي والزراعي والحرفي والحيواني، وذلك من خلال الاتفاقيات التي عقدتها إيبلا مع البلدان المجاورة وأشهرها المعاهدة التي عقدتها مع مملكة أبار سال في بلاد الرافدين، كما تضمنت هذه الرقم نصوصاً أدبية رائعة مثل ملحمة جلجامش المشهورة وعدة نصوص تتحدث عن خلق الكون وبعض الترانيم والابتهالات الدينية، وهناك أيضاً بعض النصوص التي تتحدث عن شعائر الزواج وبعض المنحوتات والتماثيل والتي تدل على المستوى الثقافي والفني لأبناء إيبلا وتطور الحركة الفنية فيها، وتضمنت الرقم أيضاً قوائم تشبه المعاجم اللغوية والتي تضمنت معاني سلسلة من الكلمات السومرية لمساعدة الكتّاب في عمليات الترجمة من اللغة السومرية إلى اللغة الإيبلوية، وكان يستخدم إضافة ذلك في المدارس لاحتوائه على قواعد التعليم التي كانت متبعة في الألف الثالث قبل الميلاد وبعض التمارين اللغوية التي كتبها الطلاب.
وتم العثور ضمن هذه النصوص على أقدم معاهدة سلام قدمتها إيبلا للبشرية عقدت بين ملك إيبلا وملك «أبارسال» تحدد الواجبات والحقوق المترتبة على طرفي المعاهدة وتفرض شروطاً والتزامات محددة، ومن المؤكد أن إبرام المعاهدة يكشف عن الذهنية السياسية والحربية المتقدمة التي كانت سائدة في مملكة إيبلا ومدى وعي وثقافة المجتمع التي رافقت ذلك، وقد عكس فنانو إيبلا مفهوم معاهدة السلام تلك من خلال عمل فني رائع عبارة عن نحت على حوض حجري يعود للقرن الثامن عشر قبل الميلاد لمجموعة من الرجال يتصافحون ويتعاهدون على الالتزام بالسلام.
ملاحظة مهمة لابد من الإشارة إليها وتعكس درجة عالية من التقدم والتنظيم في مملكة إيبلا وهي تتعلّق بالرقم الطينية وألواح المحفوظات الملكية من حيث الشكل والحفظ والتصنيف، فعلى سبيل المثال كانت الألواح المخصصة للصادرات النسيجية مربعة الشكل (16 × 16 سم) محدّبة من الخلف أما قياس ألواح صادرات الذهب والفضة (37 × 3 سم)، على حين كان قياس الألواح التي تنص على المعاهدات (35 × 40سم)، كما كانت الألواح توضع في الأماكن المخصصة لها وتصنف حسب مضمونها وموضوعها ويتم حفظها ضمن مستودع خاص للأرشيف بالقصر الملكي على رفوف خشبية.
إن تطور مملكة إيبلا وازدهارها جعلها مطمعاً للممالك المجاورة كما عرّضها للعديد من الحروب والغزوات حيث تم تدميرها من ملك الأكاديين عام 2250 قبل الميلاد وبعدها مرّت إيبلا بفترة من التدهور السياسي والاقتصادي، في ظل السلالة العمورية، نشطت مملكة إيبلا من جديد خلال الفترة بين1900-1600 قبل الميلاد وبدأ عصرها الذهبي الثاني، وعادت لتلعب دوراً متميّزاً في شمال سورية وانتهت هذه الفترة باجتياح المنطقة من الحثيين ودمرت إيبلا وأحرقت للمرّة الثانية عام 1600 قبل الميلاد.
استمرت الحياة في إيبلا بعد ذلك بشكل محدود خلال الفترة الآرامية بين720 – 535 ق. م واستمرت الحياة في الموقع حتى بداية القرن السابع الميلادي ثم طوي ذكر إيبلا لغاية بداية أعمال التنقيب عام 1964م.
مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن