من دفتر الوطن

رقة العجيلي

| حسن م. يوسف

طار قلبي شمالاً عندما دعاني الأديب الصديق نذير جعفر للمشاركة في مهرجان عبد السلام العجيلي للإبداع الروائي، صحيح أن فورتي العاطفية خفت عندما علمت أن المهرجان لن يقام في الرقة التي دمرها زعران التحالف الأميركي الدولي، بل في ناحية السبخة شرقي الرقة، لكنني وافقت بحماس على المشاركة، وهاأنذا أكتب لكم من هناك، بعد رحلة استغرقت اثنتي عشرة ساعة إلا ثلث الساعة.
شاركت في المهرجان الذي انطلق صباح أمس السبت ضمن محور «العجيلي في عيون الأدباء والنقاد» والحق أن الحديث عن العجيلي ليس يسيراً رغم ثراء حياته وتفرد شخصيته، إذ لم تعرف الرقة منذ أيام الفلكي العربي الشهير البتاني، شخصية أغنى ولا أبهى ولا أظرف من شخصية ساحر الكلمة الروائي والقاص المبدع عبد السلام العجيلي.
أعترف أنني حرمت من الاطلاع باكراً على إبداع الدكتور عبد السلام العجيلي لأن شيخ «العشيرة اليسارية» الذي ظللني بعباءته عندما دخلت إلى الجامعة عام 1969 وصف العجيلي، بأنه «برجوازي رجعي». ونظراً لأنني كنت فتى ريفياً فقيراً غراً عديم الثقافة، فقد بقيت مسلِّماً لسنوات بصحة ذلك الرأي المجحف إلى أن قرأت عبارة للشاعر نزار قباني يصف فيها العجيلي بأنه أروع بدوي عرفته المدينة وأروع حضري عرفته البادية، فقررت أن أتعرف على الرجل من خلال إبداعه، وكان أن وقعت في حبه من أول قصة.
كصحفي، كان حلماً بالنسبة لي أن ألتقي بمؤلف «النهر سلطان» وأن أجري حواراً معه، لكنني رحت أرجئ ذلك لأنني سمعت بأن العجيلي يرفض المقابلات، خاصة مع الصحف المحلية. وعندما عزمت على السفر إلى الرقة راهنني أحد الزملاء بأنني سأفشل في الحصول على لقاء معه.
علمت من الأصدقاء الرقاويين أن الدكتور العجيلي لا يدخن ولا يشرب وهو مدمن على شيء وحيد هو المشي، ففي عصر كل يوم يخرج من بيته باتجاه جسر الرقة القديم منتعلاً خفاً قماشياً، ويسير على الطريق الظليل باتجاه المقص، ساعة في الذهاب ومثلها في الإياب، وفي طريق عودته يعرج على مكتبة (الخابور) ليستطلع المطبوعات الطازجة التي تصل المدينة في ذلك الوقت، فيشتري بعضاً منها وقد يقرأ مقالاً ما وهو يتمشى.
اتصلت بالدكتور العجيلي عقب عودته من مشواره اليومي وأبلغته أنني قادم من دمشق وأقف على بعد عشرة أمتار من بيته وعندما التقينا حكيت له قصة شعوري بالذنب تجاهه وتصنيف شيخ «العشيرة اليسارية» له بأنه «برجوازي رجعي». فأطلق ضحكة طيبة، وراح يحكي لي كيف أن أحد جيرانه قال متباهياً باطلاعه الواسع: «أنا أعرف العجيلي جيداً.. إنه ارتوازي».
كان العجيلي قصاصاً في كل جوانب حياته، حتى في مهنته كطبيب اعتاد أن يصف المرض لمريضه البسيط من خلال حكاية قصيرة، والحكاية حاضرة حتى في شعره.
نشر العجيلي أول محاولة له عام 1936 وكانت قصة بدوية بعنوان «نومان» طبعت في مجلة «الرسالة» المصرية، ثم توالت كتاباته في الدوريات الشهيرة، لكنه لم يكن يوقع باسمه الصريح، وقد توصل أحد الدارسين إلى أن العجيلي استخدم اثنين وعشرين اسماً مستعاراً في الفترة ما بين 1936 و1970، وقد صارحني العجيلي أنه كان ينفر من الشهرة، وسبب هذا، حياء مفرط كان يتسم به منذ الصغر.
كان حضور العجيلي في حياة الرقاويين اليومية يتجاوز الأدب والطب إلى ما يشبه الأسطورة الحية، إذ بات اسمه يذكر حتى في الأغاني الشعبية كطبيب يستجار به لمداواة العاشقين.
عاش العجيلي متناغماً مع نفسه، لم يهاجم الغرب يوماً لأن العاقل برأيه لا يأمل من عدوه سوى الضرر، لكنه لم يقصر في انتقاد نفسه ومجتمعه لقناعته بأن الميكروبات موجودة في كل مكان لكن الضعيف وحده هو الذي يمرض. عاش الحكيم العجيلي ثمانية وثمانين عاماً فلم يسأم خلالها تكاليف الحياة مثل زهير بن أبي سلمى، ولم ينهض عن مائدة العمر ولم يشبع مثل الشاعر ممدوح عدوان، بل قال بجلال الرضى:
«لقد شبعت من الحياة، عشتها بكل ما فيها، وما عدت أرغب بالمزيد».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن