قضايا وآراء

بين «لجان دي ميستورا» و«أقوال هولاند» المأثورة … احتضــــــارٌ على أنغــــــام الســــــوخوي

فرنسا – فراس عزيز ديب :

في معظم المدن السورية، تنتشر ظاهرة بيع الكتب على الأرصفة، منها ما هو قديم ومنها ما هو جديد، كتبٌ تصلح لجميع المستويات الثقافية بما فيها تلك التي تمتلك عناوين رنانة، من بينها مثلاً تعلّم الإنكليزية بسبعة أيام، أو تعلّم الفرنسية بستة أيام. اليوم استطاع الروس أن يطوروا الفكرة وألفوا كتاباً جديداً ربما سنراه يوماً ما على أرصفة النظام العالمي الذي يولد من جديد عنوانه: تعلّم مكافحة الإرهاب بتسع غارات.
منذ أسابيع وفي مقالٍ بعنوان «بين الصمت الإيراني والقلق الإسرائيلي.. ماذا لو صدقت مقولة مبارك؟» قلنا إن تصريح وليد المعلم وردّ الكرملين حول إرسال قوات روسية إلى سورية بطلبٍ من الحكومة السورية، هو نوعٌ من تصريحات «أخذ العلم» لمن يهمه الأمر، لأن تصريحات كهذه معناها أن الأمر قطع مراحل الدراسة ودخل فعلياً حيّز التنفيذ.
بدأت العمليات العسكرية الروسية بثقةٍ كبيرةٍ حتى على المستوى الشعبي، عملياتٌ فاجأت البعض بضخامتها وجديتها وأربكت حسابات البعض الآخر لأن العملية بدت وكأنها رصاص الرحمة على ما كانوا يطمحون إليه. حال اللاتوازن الذي يحكم الحلف الأميركي مما يجري في السماء السورية والذي سينعكس حكماً على التطورات على الأرض يمكننا استقراؤها من تضارب التصريحات، تحديداً عند الحديث عن ضرورة شمول هذه الغارات لداعش حصراً ويتجاهل مطلقو التصريحات أن هناك منظمات إرهابية أخرى مصنفة دولياً على أنها منظمات إرهابية، كجيش الفتح المدعوم خليجياً وتركياً وهو لا يعدو عن كونه فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام. هناك فيما يبدو من لا يزال مصرّاً على أن يصارع طواحين الهواء، فالأتراك صمتوا رغم التصريحات التي لا تعدو كونها للاستهلاك الإعلامي، تحديداً أنهم وبحسبةٍ بسيطة أكثر المتضررين مما يجري؛ إذ ولّى زمن التهديد بالمناطق العازلة، وطموحات استعادة حلب والموصل للحضن العثماني السيئ الذكر، حتى محاولاتهم المتكررة للعب على ورقة التتار في القرم كورقة تهديد مبطنة بوجه الروس، ستكون من دونها عواقب كثيرة في العلاقة مع روسيا والوعود الروسية لتركيا بما يتعلق بمرور خطوط الغاز. أما الألمان، فبعيداً عن العلاقة الاقتصادية القوية التي تربطهم بالروس إلا أنهم ما زالوا يلعبون بأسلوب مسك العصا من المنتصف ومحاولة إرضاء الجميع، تحديداً أنهم الآن ملتهون بجمع المعلومات عن الواصلين إلى بلاد «الفتح الجديد»، ومحاولات فك شيفرات قيام تنظيم داعش بتعمد إيصال مهاجرين يتبعون لتنظيمه إلى الداخل الأوروبي، تحديداً إلى كل من ألمانيا وفرنسا. هذا الكلام لم يعد مجرد تحليلات، هذه المخاطر باتت جدية لدرجة تحدثت فيها مجلتا «أو بي إس» و«باريس ماتش» الفرنسية عن فكرة أن فرنسا قد تتعرض فعلياً لـ11 أيلول فرنسي لأنها باتت هدفاً للجهاديين.
هذا الأمر يقودنا فعلياً لدراسة الحالة الفرنسية بالكثير من الموضوعية، تحديداً أن من بين كل التصريحات السابقة بما يخص التحرك الروسي في سورية تبقى تصريحات فرانسوا هولاند الأكثر «طرافة» بما يحمله هذا المعنى من تناقضاتٍ لا يمكن لها أن تخرج من مبتدئين في العمل السياسي، لتخرج من رئيس دولة ما زالوا يظنون أنها دولةٌ عظمى من حيث التأثير في الحدث العالمي.
عندما تسمع تصريحات هذا الرجل ينتابك كمتابع للشأن الفرنسي أحد شعورين:
إما أن هذا الرجل ليس لديه أي اطلاعٍ على الشأن السوري لدرجةٍ لا وقت لديه حتى لمتابعة نشرات الأخبار، بل محاطٌ بمجموعة من المستشارين بمن فيهم وزير خارجيته فابيوس الذين لا يقدمون له تقارير منطقية عن آلية التعاطي مع الشأن السوري، وإما أن هذا الرجل قرر التنحي عن منصب الرئاسة الفرنسية ليصبح ناطقاً رسمياً باسم طموحات مشيخات النفط بتوظيف الإرهاب في دعم خراب الدول.
لا تبدو الغرابة بتبديل هولاند لكلامه من على منبر الأمم المتحدة وما حُكي عن خيانته لاتفاق ضمني مع بوتين حول تخفيف اللهجة حول سورية، لكن المشكلة الكبرى تكمن بما قاله في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع ميركل بُعيد قمة الرباعية حول أوكرانيا. في هذا المؤتمر الصحفي تعمد فلاديمير بوتين عدم المشاركة، ربما هذا الأمر يعطينا فكرة واضحة أن ما تم في الاجتماع من أحاديث جانبيةٍ عن الشأن السوري لم يُرض الأطراف الثلاثة، تحديداً أن الروس يعتبرون أنفسهم قد حصلوا على موافقةٍ شفهيةٍ على إعادة تموضع أوروبي بما يتعلق بالنظرة تجاه دور الرئيس الأسد.
قال هولاند كل ما يجعلك تتساءل: هل هذا حقاً رئيس لفرنسا أم إننا نتابع مسلسلاً كوميدياً يتقمص فيه البعض شخصيات السياسيين؟ هولاند سوّغ يوماً ذهابه لقصف داعش في سورية من منطلق الدفاع عن النفس، لكن في الوقت ذاته يردد: «على الرئيس السوري أن يوقف قصف المدنيين!!». هو ضد ما سماها «الدولة الإسلامية» لأنه لا يريد للبلد (سورية) أن تنقسم بين ما سماها مناطق (سنة وشيعة)، فمن قال له إن داعش أساساً هم «السنة»؟ ومن أقنعه أن مناطق سيطرة الدولة هي للشيعة؟ هذا الأمر لم يعد يدخل في إطار المغالطات التي هدفها تضليل الرأي العام، الأمر تجاوز هذا الحد لأنه نوعٌ من الضياع الفرنسي الفعلي، الناتج عن تبعيةٍ كاملةٍ لما تريده مشيخات «البتروديمقراطية». أما النكتة الأهم فهي إصرار هولاند على أن هذا التقسيم يتعارض مع شرعية الأمم المتحدة، كدنا نجهش بالبكاء عندما أراد الـ«مسيو هولاند» أن يُحدثنا عن الشرعية الدولية، وكأن الذهاب آلاف الكيلو مترات لضرب داعش في سورية وانتهاك المجال الجوي للدول ذات السيادة لا يتعارض أبداً مع الشرعية الدولية، كما أن المطالبة برحيل رئيسٍ منتخبٍ من الشعب في عرف وريث «الاشتراكية» الفرنسية التي لم يبق منها حتى اسمها لا يمثل انتهاكاتٍ للشرعية الدولية! لعل أهم ما يمثل الانتهاك للشرعية الدولية هو تحول دولة لديها حق الفيتو في مجلس الأمن إلى دولةٍ تتسول الاستثمارات الخليجية لإنعاش اقتصادها ولو على حساب دماء الأبرياء. من هنا يبدأ الحديث عن الشرعية الدولية، ليس عندما ندّعي الحديث عن محاربة داعش من جهةٍ، وندعم تنظيم القاعدة بمسمياته المختلفة من جهةٍ أخرى، الحديث عن الشرعية الدولية ودعم جهود «مكافحة الإرهاب» يكون بدعم التركيبات السياسية غير المؤدلجة مذهبياً أو دينياً، لا بالتحالف مع أصدقاء «أبي محمد الجولاني» مقابل صفقة طائرات هنا واستثماراتٍ عقاريةٍ باريسيةٍ هناك. لكن أين يبدو الأميركي من كل ما يجري؟ وهل سيطول الجدال بين الروس وغيرهم حول ماهية القصف؟ ومن المستهدف بالقصف؟ أم إن الانطلاقة الروسية لا رجعة عنها، تنطلق من فكرةٍ أساسيةٍ وهي وضع الجميع تحت الأمر الواقع.
لا يبدو أن الخطة (الروسية السورية) بدأت لتنتهي، أو بالأصح هو مشروعٌ متكاملٌ سيجد في الأيام القادمة من ينضم إليه، إن كان من الحلفاء التقليديين أو ممن انتهجوا الحياد نسبياً على الساحة الدولية، بمعنى آخر أياً كانت الجعجعات فالأهداف واضحةٌ لا جدال فيها، وهي الحرب على الإرهاب، لكن هل يعني هذا الكلام أن خطط دي ميستورا وغيرها قد انتهت إلى غير رجعة؟
على الإطلاق، هناك نوعٌ من التكامل بين ما يريده الروس والسوريون من الحرب على الإرهاب، والتأكيد أن لا رجعة عن الحل السياسي تحت أي ظرف. هنا علينا العودة لما قاله وليد المعلم من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال حديثه عن استحالة تطبيق أي حل سياسي والإرهاب يضرب أطنابه، فالحل السياسي سيتابع تحديداً بعد أن أبلغت سورية موافقتها على المشاركة فيما يسمى (لجان دي ميستورا). تلك اللجان التي قد يرى فيها البعض المزيد من تمرير الوقت لا أكثر حتى يتسنى للروس والحكومة السورية التقاط الأنفاس، لكن هناك من يراها أبعد من ذلك، هي فعلياً نواةٌ لإعادة تكامل الحل الذي قد يكون الروس والأميركيون قد صاغوه فعلياً، بمعزلٍ إن كان كيري قد التقى لا فروف أم… (خلوه ينطر)، سيبقى هذا الأمر شكلياً، تحديداً أن أي تقدم للقوات السورية الآن مدعوماً بالغطاء الجوي الروسي سيشكل انتكاسة لمصداقية الولايات المتحدة وحلفها الذي لم يستطع أن ينجز أي شيء على الأرض بعد عامٍ من الغارات، على حين بدأت استغاثات الإرهابيين تُسمع بعد أيام فقط من الغارات الروسية في كل من إسطنبول و«دوحة التآمر» و«رياض الجهل». وحدهم الأميركيون ما زالوا صامتين أو بالأكثر يعودون لتجارة الوهم، فهل ستحمل الأيام القادمة لنا كتاباً جديداً خطّته مطابع السياسة الأميركية وعنوانه العريض: «تعلّم كيف تتخلى عن غلمانك في عشرة أيام؟»؟ ربما أكثر من ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن