ثقافة وفن

«حكايات الفصول الأربعة»…. العبور نحو الأمل والضوء بثقة

| جُمان بركات

يقول الراحل الكبير الأديب ممدوح عدوان: «خير ماتكتبه هو الذي تكتبه، وكأن أحداً لن يقرأك، ذاك الذي تكتبه باطمئنان، وكأنك تعترف كأنك تتعرى» وكمال راغب الجابي كتب وكتب دون أن يفكر بنشر ما كتب فكان المفكر والأديب السوري الجميل الذي يحمل هموم مواسم المطر، وفقر الأطفال، والكبار الذين لم يعد جسمهم يحملهم، والباحث عن الأحلام الكبرى، كتب وكتب ولم يتعب إنه العبور نحو الأمل بثقة ونحو الضوء.

الحكايات

«حكايات الفصول الأربعة» –الكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- هي حكايات «كرنفالية» كتبها الباحث المهندس كمال راغب الجابي في تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، وقام بإلقائها أمام حشد غفير من المسمعين في المراكز الثقافية، وكان صداها طيباً، فقد كان الجابي في كل ما قدم وألقى، يتماهى مع الفكر وفضاءاته، ويلقي حكاياته الشيقة بطريقة مميزة، تحمل الكثير من دقة المعلومة، وتتميز بسرد جميل ولغة سلسة متأنية صبورة فيها الكثير من الخواطر والأفكار النيرة والأقاصيص الجميلة البعيدة عن الرتابة والادعاء وعرض العضلات. جمع كمال راغب الجابي هذه الحكايات والدراسات والمتابعات والقصائد في كتب، وكان يكتب ونادراً ما يفكر بالنشر وتمر الأيام والسنوات.
وجدت في «حكايات الفصول الأربعة» ملامح واضحة تدل بما لا يقبل الشك على أديب كبير لم يأخذ حقه من التقدير والتكريم، يرى الحياة في كل ما كتب من خلال عدسة مكبرة يتعرف من خلالها على تفاصيل الحياة ودقائقها التي عاشها في ألمانيا وسورية وبعض الدول الأخرى، عاشها بحيوية وإشراق ويقدم عنها لمحات ومحطات بلبوس حضاري ورؤية تتميز بالصدق والتعبير المشرق الجميل، هي حكايات منبثقة من بعضها تعطي للحياة طابعها وخصوصيتها وطعمها الخاص، بشكل يمكن اعتبار كل منها فصلاً من فصول مسرحية اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وتدور أحداثها خلف كواليس الحياة وهمومها حيناً أو فوق خشبتها حيناً آخر، وقام بإعطاء كل حكاية من هذه الحكايات عنواناً خاصاً يميزها عن غيرها ويبين فحواها ومضمونها ويمدها باستقلالية تجعل منها حدثاً قائماً بذاته مثل «مكره لا بطل» و«من يدري» و«اختلاطات» و«الأصدقاء والنساء» و«صديقي الدكتور» و«الحب والحياة» و«مجتمع الحب والمحبة» و«فلوس ونفوس» و«ساعة حرة حكايات من الشرق والغرب» و«حواريات اقتصادية» و«المرأة في المرآة» و«الحب في فصوله الأربعة» و«الأم والأب والحب والحرب» و«الروح والريح والراح» وغيرها.

الحب هو الحياة

في كل حكاية من حكاياته الجميلة، وكل سردية من سردياته الهادفة الواعية، يتعمد استقطاب المزيد من الانتباه والاهتمام إلى مقولة أساسية هي الحب للحياة لأن مفرداتها كفيلة بفتح النوافذ المغلقة، ومعالجة المشاكل المطبقة واستقبال الشمس المشرقة واستبعاد الأخطار المحدقة، فالحب هو الحياة، وهو لها كالشمس مصدر الحرارة والضياء والحياة هي المحبة وحاجتنا لها كحاجة الجسد إلى الغطاء في فصل الشتاء.
يقول المؤلف في حكايته بعنوان «نظريات في الحب ونظرات إلى المحبة»: «الحب كلمة سحرية تتألف إضافة إلى أداة التعريف من حرفين، أولهما يخرج من أسفل الحلق وكأنه ينضح بما في الأعماق بشكل مشابه لما يؤديه في كلمات حر وحلو وحام وحان، والثاني ينطلق من ضم الشفتين وانفراجهما وكأنه يريد أن ينفلت وينفلش ليبلغ معبّداً الدروب أمام القلوب لإزالة الكروب ونثر الطيوب ومدلول هذه الكلمة ذو علاقة وثيقة بالروح لأن الروح بحكم نفخ القوة الإلهية فيها لغز الخلق وركز الوجود وحرز الإنسان وحوزه في آن معاً».

البحث والتقصي
من أهم ما يميز كتابات كمال راغب الجابي، وما يلفت النظر أنه في كثير من الأحيان يقوم بالاسترشاد بأحداث الماضي، والاستدلال بمعطياته وأفكاره ورجالاته لتتبع مشوار نشوء مفهوم الحب الذي نحن أحوج ما نكون إليه في عالم اليوم، عالم الأزمات والاغتراب والاستلاب الفكري والحضاري، عالم «العولمة» و«الفوضى الخلاقة» و«الحرب الناعمة» لقد دفعه حب البحث والاستطلاع إلى تتبع جذور العلاقة بين المرأة والرجل إلى عصور ما قبل التاريخ الموغلة في القدم، وقادته هواية البحث والتقصي إلى محاولات جادة في لملمة الصور المتناثرة، والقيام بتنسيق ملامحها المتغايرة وجمع تقاسيمها المتنافرة، وبعد ذلك اجتهد وقام بجمعها في سياق واحد، بعد استبعاد الناشر النافر الذي قد يؤدي إلى تشتيت الإضاءة وبلبلة الرؤيا حرصاً على وضوح المعالم وتفادياً لتشويه وخلخلة المساقط، وساقتنا تصوراته الرائعة والواعية إلى المساهمة في استقراء الأشكال الجديدة التي يعكسها تطورها المستمر استناداً إلى ماضيها، وارتكازاً على حاضرها، وتطلعاً نحو مستقبل أفضل.

الطفولة

اختار الجابي موضوعاً يدور حول الطفولة ويحوم بين نجومها بعنوان «طفولة العالم وعالم الطفولة»، ويجول داخل عوالمها ليتعرف إلى معالمها، وقد اختار الطفولة لأنها مرحلة البدايات في هذه الحياة وبوصفها من أبرز اهتمامات الآباء والأمهات، والصفحة المشرقة في تاريخ الأمة العربية الحديثة والتي يقوم أطفال الحجارة ببدء التسجيل عليها مشرعين الأمل بوساطتها على أبواب المستقبل، الطفولة لغة هي المرحلة التي تلي الولادة مباشرة وتمتد حتى سن البلوغ، وكلمة «العالم» لغة الكون والمكونات والخلق والمخلوقات والوجود والموجودات.
يلخص في هذه الحكاية أن الحب الذي يُمنح للأطفال لا ينبغي أن يقتصر على حملهم على رموش العين وإسكانهم في أعماق الأوردة وحراستهم وحضنهم فحسب وإنما ينبغي أن يمتزج بمحاولة إبقاء قلوبهم صافية الود لا تحمل الكره ولا الحقد، وترتيبهم على كيفية حمل المشاعل لإنارة الطريق للجميع وليس للفرد، وغرز بذور عدم ترفعهم على الآخرين وعدم استصغارهم لهم وتحذيرهم من مكامن الخطر التي تتشكل عند ممارسة الظلم على البشر، وتنبيههم إلى أن الحب وحده بحائه الحارة وبائه البارة والمحبة المفروزة عنه بميمها الضامة وتائها ذات الاستدارة التامة هما وحدهما الطريق إلى الصفاء والهناء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن