ثقافة وفن

الفسيفساء الدمشقية فنٌّ خالدٌ متجدِّدٌ

| نبيل تللو

الفن مجموعة متنوعة من الأنشطة البشرية الهادفة لإنشاء أعمال سمعية أو بصرية أو أداء، وهو موهبة ولغة استثنائية تتيح للفرد التعبير عن ذاته ومجتمعه وهبها اللـه عزَّ وجل لجميع البشر لكن بدرجاتٍ متفاوتة من شخصٍ لآخر، وفي الوقت ذاته هو ضرورة من ضروريات الحياة للإنسان كحاجته للطعام والشراب، وأحد أشكال الفن هو الفن التشكيلي الذي يؤخذ من الواقع ليصاغ صياغة جديدة، أي يشكَّل تشكيلاً جديداً، ومن أشكال الفن التشكيلي فن الفسيفساء، الذي يجري التعريف به وبمدى انتشاره عالمياً ومحلياً في هذه المقالة، راجياً أن يتذكَّر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.
الفيسيفساء، باللغة الإنكليزية: « موزاييك»، مصطلحٌ أصله اللاتيني: «بسيفوسيس»، مادته مجموعة من الفصوص المربعة الصغيرة أو المستطيلة أو المثلثة أو غير ذلك من الأشكال التي لا تتجاوز مساحتها سم مربع واحد، وهي أحجارٌ أصلية ملونة يجري تقطيعها بمنشارٍ حجري، أو زجاجية مصنوعة من السيليكات السائلة بفعل الحرارة العالية مع أكاسيد متنوعة لتلوينها، وتُصَبُّ في قوالب على شكل مربعات لتحضيرها للرصف، وقد يضاف إلى سطوح بعضها طبقة ذهبية. ومع هذه الفصوص قد تُضمُّ إلى بعض الأعمال الفسيفسائية كِسَر صدفية، وتوضع في ألواحٍ كبيرة لتزيِّن بها جدران الأماكن العامة وأرضياتها، من مساجد وكنائس وقصور، وتمثِّل هذه الألواح مشاهد دينية أو أسطورية أو حتى مناظر طبيعية، مثلها مثل الصور الجدارية، أو النوافذ الزجاجية المؤلَّفة من قطعٍ صغيرة من الزجاج تنضَّد مع بعضها لتشكيل صورةٍ ما.
يبدأ تحضير الألواح الفسيفسائية حجرية كانت أم زجاجية؛ بإعداد لوحةٍ تحضيرية يبدعها الفنانون، ثم يقوم الصانع بتوزيع الفصوص الملونة حسب اللوحة، وعادةً تتوزع الفصوص ضمن خطوطٍ انسيابية نظامية تتبع قاعدة معيَّنة تدرَّب عليها المنضدِّون، وتُلصق بمادةٍ ملاطية مؤلفة من الجص أو الكلس أو الإسمنت أو مواد لاصقة. وبعد جفاف المادة الملاطية يُنقل اللوح الفسيفسائي إلى مكانه على الجدار أو على الأرض، ثم يُثَبَّت بكلاليب حديدية.
ولم تختلف عمليات تنضيد الفسيفساء على مدى العصور، فقد أصبح عملاً تقليدياً رائجاً لتحقيق تزويقٍ جذَّاب للمباني العامة أو الخاصة أحياناً، ولإضفاء طابع الفخامة والزهو لهذه المباني، وتأكيداً لوظيفتها الدينية أو الدنيوية.

أهم لوحات الفيسفساء في العالم
تُعَدُّ لوحة «صيد الأسد» الإغريقية واحدة من أقدم اللوحات الفسيفسائية في العالم، إذ إنها تعود إلى عام 300 قبل الميلاد. وهناك لوحةٌ أصلها إغريقي أيضاً تعود للفترة ذاتها تمثِّل معركة إيسوس بين الإسكندر المقدوني وداريوس ملك الفرس، اكتشفت في حفائر بومبي.
وفي العصر الروماني انتشرت الفسيفساء في جميع أنحاء الإمبرطورية، وتشاهد في البلاد العربية في تونس، وبنغازي (ليبيا)، والإسكندرية (مصر)، وجرش (الأردن)، وأنطاكية وتدمر وآفاميا ومعرة النعمان وشهبا والقنوات (سورية).
وفي العصر البيزنطي في القرن السادس الميلادي ظهر الفن الفسيفسائي الزجاجي، الذي ظهرت آثاره الرائعة في روما وميلانو، كما هو الحال في لوحة الإمبراطور جوستنيان الأول والإمبراطورة تيودورا وحاشيتها، وتعود إلى منتصف القرن السادس الميلادي.
وانتهى عصر الفسيفساء الزاهر منذ عصر النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر؛ حين استعيض عنه بالرسم الجداري.
أهم لوحات الفسيفساء عربياً: تُعَدُّ فسيفساء المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة في القدس الشريف بفلسطين العربية من أشهر الفسيفساء الإسلامي في المنشآت الأموية الأولى، وهي من النوع الذي تغلب عليه فصوص الزجاج الملون أو المذهب، وتغطي جميع الأقسام العليا للجدران من الداخل، كما تكسو واجهة القناطر ورقبة القبة، وهي ما تزال سليمة ومحتفظةً برونقها وتزين المبنى بالصور النباتية والهندسية والكتابات الكوفية، ولكنها زالت من الواجهات الخارجية بسبب العوامل الجوية، والعمل جارٍ لترميمها.

أهم لوحات الفسيفساء في سورية
تُعَدُّ اللوحات الفسيفسائية في الجامع الأموي بدمشق واحدةً من أهم مجموعات الفسيفساء الموجودة في سورية، فقد اعتمد بناة المسجد في زخرفته وتجميله على عنصرين هما الفسيفساء والرخام، واستخدم الرخام لكسوة الجدران والعضائد حتى ارتفاع نحو أربعة أمتار، يليها الفسيفساء حتى السقف، وكُسيت بها واجهات القناطر، ويغلب عليها الفصوص الزجاجية الملونة التي يقارب حجمها سنتيمتراً مكعَّباً، ويتكوَّن من رصف الفصوص لوحات رائعة تمثل مشاهد معمارية كالمنازل والجسور والأنهار، وتحفُّ بها حدائق وأشجار، ويحيط بهذه اللوحات إطارات ذات أشكالٍ هندسية، وكانت تحتوي على آياتٍ قرآنية ونصوص تاريخية وصور المدن المشهورة، لكنها تساقطت واندثرت في معظم أنحاء المسجد في أحداث الحرائق والزلازل، وجرت محاولاتٍ عدة لترميمها، وأهم ما بقي منها موجود في الرواق الغربي للمسجد وفي قبة الخزنة.
وفي معرة النعمان بمحافظة إدلب أقيم عام 1985 متحف المعرة، ويضمُّ مجموعات أثرية أهمها ألواح فسيفسائية رائعة تعود للعصرين الروماني والبيزنطي بعضها عليها كتابة آرامية، وقد نُقِلت من مناطق أثرية تابعة لمحافظتي إدلب وحماة، وهي ذات مواضيع أسطورية أو دينية أو كتابات.
وفي شهبا بمحافظة السويداء أقيم عام 1962 متحف شهبا بدارةٍ رومانية أرضيتها مشاهد فسيفسائية رائعة تُركت في مكان اكتشافها حمايةً لها، وهي تُعَدُّ من أشهر وأكمل اللوحات الفسيفسائية السورية، وتُمثِّل إحداها ديونزيوس إله الكرمة التي اشتهرت بإنتاجها المنطقة، ولوحة أفروديت ربة الجمال والحب، ولوحة أورفه الشاعر والموسيقي الذي أطرب الإنسان والحيوان بقيثارته وشعره، ولوحةٌ أخرى تمثل الفصول الأربعة. وفي متحف دمشق الوطني ومتحف السويداء لوحات فسيفسائية اكتشفت في شهبا، كما أُقيم في آفاميا بمحافظة حماة متحف يضمُّ لوحات فسيفسائية.
ومع أن فن الفسيفساء قديم، إلا أنه يعود اليوم مزدهراً من جديد في أماكن مختلفة من العالم، حيث توجد مدارس كثيرة لتعليم أساليبه وتقنياته، فناً ومهنةً، وصارت الرسوم ذات المواضيع الحديثة تشغل حيِّزاً كبيراً، وباتت لوحات الفسيفساء الحديثة تستخدم في تزيين جدران وأرضيات المباني العامة والخاصة والقصور والأسواق الحديثة، وفي أحواض السباحة والحمامات، وفي لوحاتٍ جدارية ضخمة.
ختاماً أقول: إن ما دفعني لكتابة هذه المقالة هو الحفل الذي أقامته المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق منذ أيام، وفيه أزيح الستار عن لوحةٍ فسيفسائية سوريةٍ رائعة كانت محفوظة بأحد المتاحف بكندا، وقام مواطنٌ عربي سوري مغترب بإعادتها إلى موطنها على نفقته الخاصة، ضارباً مثلاً رائعاً عن حرص السوريين على الحفاظ على آثار بلدهم أينما وجدت في العالم، وقد نشرت صحيفة «الوطن» مقالةً عن هذا الحدث الكبير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن