الأولى

بعيداً عن الوهم

بنت الأرض :

في 30 أيلول أعلن البنتاغون أن خطط تدريب المعارضة السورية قد تمّ إيقافها، وذلك لأن هذه المعارضة تسرّبت إلى جبهة النصرة، وأنهم لم يعودوا قادرين أن يتأكّدوا أين يذهب المتدرّبون وأين ينتهون هم وأسلحتهم على الأرض السورية. وفي 2 تشرين الأول يصرّح الرئيس أوباما من ضمن تصريحات عدّة: «من الواضح أن بوتن لا يميّز بين تنظيم الدولة الإسلامية والمعارضة السورية المعتدلة». لقد برهنت واشنطن في هذه الأزمة أنها رهينة أفكار وآراء وشخصيات مضلّلة تحاول أن تبقي على دعم أميركا لها للبحث عن أهدافها الصغيرة هنا وهناك. إذ لا يُعقل أننا نسمع الرأي وضدّه من عاصمة تعتبر نفسها الأقوى في العالم. ورغم كلّ المحاولات لإيجاد منطق متناسق يفهم من خلاله المرء ما يصدر عن واشنطن، فإن النتيجة الوحيدة التي يمكن التوصل إليها هي أن هناك إرباكاً داخل واشنطن، وأنّ هناك آراء عدّة تتجاذب في اتجاهات مختلفة، وأنّ هناك فشلاً في التوصّل إلى رؤية واضحة أو إستراتيجية مدروسة ومُحكمة سواء بشأن سورية أو العراق أو أوكرانيا أو التمويل والتسليح للإرهاب وغيرها من الملفات.
ولكن، بعيداً عن كلّ التناقضات في التصريحات الأميركية والغربية والتي تطرق آذاننا صباحَ مساء، فإن حقيقة الأمر هي أن روسيا أخذت زمام المبادرة كقطب صاعد يكتسب مصداقية، ولديه مرتكزات أساسية لكلّ تصريح أو فعل أو رؤية أو خطّة. وعلّ المقارنة بين خطابي الرئيسين أوباما وبوتن في 28/9/2015 في الأمم المتحدة، تعتبر مؤشراً لشكل المستقبل الذي يتّجه العالم إليه اليوم. حاول أوباما تبرير أخطاء الولايات المتحدة وإعادة صياغة المواقف التي لم تثبت صحتها ولم تكتسب أيّ مصداقية، وحاول التأثير في ذهن المشاهد من خلال أدائه كشخص، ولكنه لم يُقدّم مطلقاً مواقف لافتة أو جدّية أو جديرة بالدراسة والتوقف عندها. أما بوتن فقد اعتمد على المواقف التي أعلنها والأفكار الجوهرية التي طرحها، إذ كلّ جملة في كلمته تحمل ضرورة البحث والتفصيل واتخاذ الخطوات لإنجازها. وبعد ذلك اليوم التاريخي شهدنا بالأمس أيضاً اجتماع بوتن في مجموعة النورماندي من أجل أوكرانيا، وكانت لغة الجسد قبل لغة الكلام تقول إن ميركل وهولاند يتعاملان مع بوتن بطريقة مختلفة جداً، حتى عن الاجتماع السابق، وإنهما يصغيان بثقة لرجل أثبت مصداقيته وبرهن للعالم أنه يريد حلولاً، وأنه يمتلك من القدرة القيادية ما يؤهله لقيادة حلول حقيقية ودائمة.
وقبل هذا وذاك، دخل بوتن مع إيران والعراق وسورية في مجموعة عمل لتبادل المعلومات حول محاربة داعش في سورية والعراق، وهذه هي المرة الأولى التي يدخل العراق في أي شأن إقليمي بمنأى عن الولايات المتحدة. ولذلك فإن علينا أن نقرأ التصريحات الأميركية والغربية بشأن سورية أو غيرها في ضوء هذه المستجدات المهمة جداً التي ليست أقلّ من ولادة عالم جديد بوقت قياسيّ، هو عالم روسيا الاتحادية، الذي بدأ يأخذ أبعاده ويفرض وجوده على الساحة الدولية ويقدّم بديلاً يفضح التلكؤ والازدواجية الأميركية والغربية في معالجة الأمور.
وقد تكون المقارنة اليوم بين الأداء الغربي والأداء الروسي في محاربة الإرهاب في سورية أهم ما يشغل بال صانع القرار الأميركي. إذ هل يُعقل أن تتحدث الولايات المتحدة عن سبعة عشر عاماً لمحاربة داعش في سورية والعراق، في حين تنجز القوات الروسية خلال بضعة أيام ما لم ينجزه التحالف الغربي خلال خمسة عشر شهراً؟! والأكثر من ذلك أن ظهور القطب الروسي بهذه القوة والفعالية يضع القطب الأميركي على المحكّ. إذ كيف يبرّر الأميركيون للشعب العراقي منع الحشد الشعبي من محاربة داعش والانتظار لتشكيل جيش طائفي كي يكون مقدمةً لتقسيم العراق؟ وكيف يمكن لرئيس الولايات المتحدة أن يقول إن «السنّة في الشرق الأوسط سيتفقون ضدّ بوتن»؟ والجميع يعلم أيضاً أن موقف الغرب من الملف السوري هو الذي أطال أمد الأزمة في سورية وكلّف شعبنا ثمناً هائلاً من الدماء والأرواح.
منذ غزو العراق استندت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط إلى التفرقة الطائفية، وإرساء أسس تقسيم البلدان، العراق، ليبيا، سورية، السودان، والآن اليمن، ولذلك فإن اللغة التي يستخدمها الأميركيون هي لغة التفتيت والتقسيم، في حين يأتي القطب الجديد وفق اتفاقات مع دولة ذات سيادة، ووفق شرعية دولية، ووفق اعتبار لبلد عضو في الأمم المتحدة، بعيداً عن المكونات الطائفية أو العرقية لهذا البلد. أي إن القطب الروسي الجديد لا يهدد القطب القديم من خلال استخدام طائراته ضدّ الإرهاب، ولكنّه يمثّل تهديداً غير مباشر له من خلال تقديم أنموذج في العلاقات الدولية، يعتمد على القانون الدولي والمصداقية وثبات الموقف والانسجام الكامل بين القول والفعل، والجميع يعلم أن هذا بالذات ما افتقر إليه الغرب في علاقاته مع البلدان في العقود الأخيرة.
عشية ذكرى حرب تشرين التحريرية، يمكن القول إن تواطؤ الولايات المتحدة وإسرائيل والسادات في تلك الحرب وجّه ضربة قاسية للجيش السوري، وأخرج الاتحاد السوفييتي، في ذلك الوقت، من مصر، وأحضر إلى الواجهة البترودولار ودول الخليج كممثلين حصريين عن العرب. في الذكرى الثانية والأربعين لتلك الحرب، تعود روسيا الاتحادية بقوّة إلى المنطقة والساحة الدولية، وتنكسر دول الخليج وتظهر على حقيقتها مشيخات متآكلة لم تلحق بالعرب إلا العار، ويعود الحضور العربي ليتلمّس أماكن وجوده التي تليق بحضارته وتاريخه ومستقبل أبنائه. من النتائج المضلّلة لحرب تشرين كان طرح فكرة أن الأميركي يمكن أن يكون وسيطاً نزيهاً لحلّ الصراع العربي – الإسرائيلي. اليوم أصبح جلياً للجميع، وبعد عقود من التفاوض والتلاعب والانتكاسات أن هذا وهم، وأنّ قضية فلسطين برسم أحرار العرب والعالم الذين لا بدّ أن يعيدوا قراءة هذا التاريخ ليتخذوا القرارات السريعة والحاسمة التي تتناغم مع هذا العالم الجديد الذي تشكّل روسيا عنواناً أساسياً له. لا شكّ أننا نلج عالماً جديداً مختلفاً كلياً عمّا شهدناه من قبل، وعلينا أن نعدّ العدّة له، ونكون من المؤثرين به وبوجهته المستقبلية، كي نكون جديرين بعروبتنا وحضارتنا وأمناء على مستقبل أجيالنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن