قضايا وآراء

قانون «قيصر» والهجمة الأميركية الجديدة

| فارس الجيرودي

أقر الكونغرس الأميركي بمجلسيه قانون «قيصر» وهو تشريع يهدف لمعاقبة أي جهة أو شركة أو كيان تجاري حول العالم يثبت ارتباطه بعلاقة ما بالدولة السورية، لكن مفاعيل القانون كانت قد بدأت بالظهور فعليا قبل عام تقريباً عندما تم الكشف عن تفاصيله، فبفضل سيطرة واشنطن على مفاصل النظام الاقتصادي الدولي يكفي الإعلان عن تشريع يعاقب أي جهة لعلاقتها «ولو مواربة مع دولة ما» حتى يتسبب ذلك بحالة من الذعر في الوسطين الاقتصادي والمالي العالمي، تدفع الأغلبية الساحقة من الشركات وأصحاب رؤوس الأموال لإجراء ألف حساب قبل الإقدام على التعامل مع الدولة التي تريد واشنطن عزلها.

لكن الحصار الاقتصادي الذي شددته واشنطن خلال العام الماضي على دمشق بعد يأسها من نجاح أدواتها من الجماعات الإرهابية في إسقاط الدولة السورية، ليس النوع الوحيد من الحصار الذي تستهدف به سورية اليوم، فمحاولة التجويع والتضييق الاقتصادي مخطط لها على ما يبدو كي تتكامل مع تطويق من نوع آخر من جهتي لبنان غرباً والعراق شرقاً، وذلك عبر إطلاق موجة جديدة من الحركات «الربيعية العربية»! التي تبدأ عادة برفع شعارات محقة لا يمكن لأحد أن يرفضها «كالحرية أو مكافحة الفساد» ثم تنزلق لاحقاً وكنتيجة طبيعية لغياب التنظيم والقيادة الثوريين إلى منزلق العنف والطائفية فيسيطر عليها بالتالي الأكثر تشدداً، فمن منا نسي كيف بدأت الموجة الأولى من «الربيع العربي» في كل من مصر وتونس؟

ثم كيف انتهت أخيراً إلى سيطرة المتشددين التكفيريين الذين اعتاد الغرب اعتبارهم استثماراً مربحاً لاستنزاف خصومه؟

لقد جرى خلال الأسابيع الماضية الترويج مجدداً لثورات خالية من الإخوان والسلفيين، ثورات راقصة مرحة مملوءة بالفتيات الجميلات كما هو حال الحراك اللبناني، أو ثورات بعنف متوسط كما هو حال الحراك العراقي، المقتبس من التحرك الذي تدعمه واشنطن في هونغ كونغ ضد الحكومة الصينية، لكن إخفاق الجهات الغربية والخليجية التي امتطت صهوة الحراكين في الوصول إلى نتائج حاسمة عجلت في دفع تلك الجهات لاتخاذ قرار رفع منسوب التوتير الطائفي في لبنان حيث لم ينجح الحراك هناك في اختراق البيئة الحاضنة لحزب اللـه رغم شعارات مكافحة الفساد التي رفعها والتي تهم بطبيعة الحال أي مواطن لبناني.
كما تم اتخاذ قرار آخر برفع منسوب العنف في الساحة العراقية التي نجح الحراك فيها في إحداث خرق للبيئة الحاضنة للحشد الشعبي العراقي، لكنه استفز رد فعل مقابل من الجهات الشعبية الداعمة للأحزاب والقوى المتحالفة مع طهران، والتي نظمت نفسها في تظاهرات حاشدة تم خلالها إحراق العلمين الأميركي والإسرائيلي.

تشير معلومات موثوقة إلى أن حالة التململ الشعبي والفوضى التي اجتاحت الساحتين اللبنانية والعراقية إنما تم تهيئة الظروف الموضوعية لإشعالها تزامناً مع تصريح وزير الخارجية اللبناني الذي أشار فيه لنيته كسر المحظور الأميركي بخصوص التنسيق مع الحكومة السورية، وإثر فتح معبر القائم بين العراق وسورية، وبعد توقيع الحكومة العراقية لاتفاقيات استثمارية ضخمة مع نظيرتها الصينية بقيمة 500 مليار دولار.

تتحدث المصادر القريبة من غرفة عمليات محور المقاومة عن رصد حركة تحويل أموال غير طبيعية من المصارف اللبنانية خلال الأشهر التسعة الماضية باتجاه البنوك الأوروبية وبحجم يعادل ما يتم تحويله في الظروف العادية خلال 5 سنوات، أي إن النظام الاقتصادي اللبناني تلقى دفعة قوية لتسريع انهياره، «هو كان على سكة الانهيار أصلاً لأسباب بنيوية تتعلق بالأسس الهشة التي وضعتها له الحكومات الحريرية في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية»، ويبدو أن تعمد إسقاط النظام المصرفي اللبناني الذي رعته الولايات المتحدة ووكلاؤها الخليجيون طوال العقود الثلاثة الماضية إنما جاء تحت ضغط الذعر الذي يجتاح المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي لا تخفي التسريبات الإسرائيلية أن ضباطها يعيشون اليوم هاجس الصواريخ الدقيقة التي فشلوا في منع وصولها لحزب الله، ما يحرمهم عملياً من إمكانية شن عدوان جديد على لبنان، بهدف السطو على احتياطياته المتوقعة من الغاز والنفط في منطقة شرق البحر المتوسط.

إذاً بات واضحاً أننا إزاء هجمة مضادة يقودها الأميركي لمحاولة تغيير موازين القوى الجديدة التي أفرزها إخفاقه الذريع في معركة إسقاط الدولة السورية، ومن ثم عجزه عن حماية هيبته العسكرية في مواجهة إيران في مضيق هرمز إثر إسقاط إحدى أحدث طائراته المسيرة، وما تلا ذلك من سيطرة الإيرانيين على سفينة بريطانية، ونجاحهم في إجبار الحليف الغربي الأهم للولايات المتحدة بريطانيا على إطلاق ناقلة النفط الإيرانية التي احتجزتها في جبل طارق أثناء توجهها نحو سورية، إضافة للضربة التي وجهتها جماعة أنصار اللـه اليمنية لعصب الاقتصاد الرأسمالي العالمي ممثلاً في شركة آرامكو السعودية.
كما صار جلياً أن الهجمة الأميركية المضادة تحاول التعويض عن العجز العسكري عبر مزيج من أساليب الحرب الناعمة، كالتجويع والعقوبات الاقتصادية التي تهدف لخلق حالة تململ وحراك شعبي ومن ثم امتطاء صهوتها عبر وسائل الإعلام الخاضعة في معظمها في العالم العربي لسطوة التمويل الخليجي، وأيضاً عبر نشطاء منظمات المجتمع المدني الذين يسارعون لاختراق ومن ثم السيطرة على أي حراك شعبي عربي وإعادة توجيهه بما يناسب أهداف وزارة الخارجية الأميركية التي تمول تلك المنظمات وتدرب نشطاءها من خلال برامج معلنة.

لكن كيف كان رد محور المقاومة؟ حسبما اعترفت به القيادة الوسطى للقوات الأميركية مؤخراً فقد تم استهداف القواعد العسكرية الأميركية في كل من العراق وسورية بعدد من الهجمات غير المسبوقة من حيث قوتها، لكن ما اعترف به البيان الأميركي ليس سوى غيض من فيض مما حدث فعلاً، إذ تشير المعلومات إلى استخدم صواريخ ثقيلة يزن رأسها الحربي 500 كغ من الـ«تي إن تي» الشديد الانفجار، ولا يمكن عقلاً أن تكون أجساد الجنود الأميركيين مضادة لمثل الانفجارات التي تحدثها تلك الأنواع من الصواريخ حتى نصدق عدم وقوع خسائر في صفوفهم، ويكفي أن الولايات المتحدة صارت تتكتم على بعض الهجمات بحق قواعدها العسكرية، وتتأخر في الإعلان عن بعضها الآخر متوعدة بـ«الرد إن استمر الحال على ما هو عليه» على حد تعبير البيان الأميركي، وذلك بعد أن كان الأميركيون ينتظرون أقل ذريعة لتوجيه ضربات ساحقة لأعدائهم، لذا يمكننا أن نتوقع أن الأميركيين سيجدون أنفسهم مضطرين للخروج من سورية والعراق قريباً إذا تواصل التصعيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن