قضايا وآراء

روسيا وسياسة المصلحة

القاهرة – فارس رياض الجيرودي :

أول ما يبدأ به المحذرون من التعويل على الشراكة العسكرية السورية الروسية الناشئة، هو تأكيد أن المصالح هي وحدها ما يوجه سياسات الدول خصوصاً العظمى منها لا الأيديولوجيات ولا العواطف، ومن ثم يشير هؤلاء إلى أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي، لذلك فهي وإن وقفت معنا في مواجهة الإرهاب لكنها لن تكون معنا في معركتنا المركزية في مواجهة إسرائيل.
ورغم أن وجهة النظر السابقة تنطلق من افتراضات معقولة وواقعية إلا أنها تنتهي لاستنتاجات خاطئة، فهي تعبر في الواقع عن شيء من القصور في فهم العلاقات الدولية والديناميكيات المحركة لها، فالسياسات القائمة على المصالح الإستراتيجية هي بلا شك أشد رسوخاً من السياسات التي تدفعها الإيديولوجيات والروابط الثقافية والتاريخية بين الشعوب، وبالتالي هي بالضبط ما يمكن التعويل عليه حقاً، فحتى السياسات السوفييتية في الحقبة الستالينية حقبة الذروة في الأدلجة الشيوعية لا يمكن تفسيرها من دون دراسة مصالح الأمن القومي السوفييتي الموجهة لها في تلك المرحلة، وكذا سياسات الصين في الحقبة الماوية، عندما فضلت بكين رغم عقيدتها الشيوعية الماوية المغرقة في التطرف الثوري، ولاعتبارت تتصل بمصالحها الإستراتيجية، أن تنجز تفاهماً مع الرأسمالية الأميركية على حساب علاقاتها بالاتحاد السوفييتي الذي تتشارك معه ذات الإيديولوجيا.
لذلك لا يمكن فهم الدعم التسليحي الضخم الذي كان يقدمه الاتحاد السوفييتي لكل من سورية ومصر والثورة الفلسطينية و(الذي كان معظمه بالمناسبة بلا مقابل مادي)، في إطار الإيديولوجيا السوفييتية الشيوعية فقط، بل إن تلك المساعدة التي حصل عليها معسكر التقدميين العرب في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات كانت تتصل باعتبارات حماية الأمن القومي السوفييتي من خطر التمدد الغربي في الشرق الأوسط عبر القاعدة العسكرية الغربية في المنطقة والمسماة إسرائيل، ذلك التمدد الذي كان يهدف في مرحلة لاحقة لمحاصرة الاتحاد السوفييتي وتفكيكه وإسقاطه، وهو ما تم فعلاً عقب اتفاقية كامب ديفيد، عندما اجتمعت مصر السادات مع الأنظمة العربية الرجعية في نادي السفاري في باريس، تحت المظلة الأميركية، بهدف ما سمي حينها إيقاف المد الشيوعي في إفريقيا، ولاحقاً التخطيط لاستنزاف الاتحاد السوفييتي في أفغانستان عبراستخدام العقيدة الوهابية الجهادية، ما أدى في النهاية لإسقاط هيبة الجيش الأحمر ومن ثم تفكك الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي تلاه أحد أكبر عمليات النهب الاقتصادي في التاريخ التي مارسها الغرب بالتعاون مع المافيا الروسية، حيث تدفقت الثروات الروسية على البنوك والمصارف الغربية بآلاف المليارات خلال عقد التسعينيات.
ومن ثم فإن مشكلتنا كعرب بل مشكلة شعوب العالم الثالث مع السياسات الغربية والأميركية تحديداً لا تتعلق بكون هذه السياسات تتحرك انطلاقاً من مصالح أمن قومي مشروعة، بل إن المشكلة الحقيقية مع الغرب هو تعريفه غير العقلاني لمصالحه، حيث يحدد القائمون على صنع القرار في الغرب أهدافهم الإستراتيجية بالحفاظ على سيطرة الغرب على ثروات العالم وعلى قراره من دون الاعتراف بأي شريك من خارج المنظومة الغربية، وهم يستخدمون لتحقيق تلك الأهداف جملة من الممارسات التي تتناقض مع القانون الدولي، بدءاً من ممارسة العزل وفرض العقوبات، وصولاً إلى هزّ استقرار الدول وحتى ضرب وحدة المجتمعات حول العالم باستخدام الإرهاب إذا اقتضى الأمر، كل ذلك بهدف إعادة تشكيل العالم ورسم خرائطه وتوازناته، بما يتلاءم مع المصالح الإمبريالية الغربية غير العقلانية، والتي لا يمكن إيجاد مساحات للتفاهم والتقاطع معه من أي دولة وطنية تحترم ذاتها.
بالمقابل يضع القائمون على السياسات الإستراتيجية الروسية تعريفاً عقلانياً لمصالحهم الوطنية، انطلاقاً من شعار الالتزام بالقانون الدولي واحترام استقلال الدول، ورفع الشرعية عن عمليات التدخل في شؤون الدول الوطنية الداخلية بحجة دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما يعني عملياً وقف العربدة الغربية التي مورست من دون ضوابط في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، مع العمل للحفاظ على استقرار المجتمعات ومحاربة الإرهاب ودعم الجيوش الوطنية في مواجهته، والتعريف السابق للمصلحة تعريف عقلاني لدرجة أنه يجد أنصاراً له في الغرب نفسه يتكاثر عددهم، طرداً مع ازدياد الكوارث الناتجة عن السياسات الغربية الطائشة، بدءاً من تفاقم مشكلة الإرهاب التي تهدد بضرب الأمن الدولي في الصميم، وصولاً لأزمة تدفق اللاجئين من الدول التي أجرت فيها أميركا وشركاؤها تجاربهم التخريبية المتهورة.
إن التعريف العقلاني لدول كروسيا والصين لمصالحها الوطنية في مواجهة الشره الغربي اللامحدود لممارسة التحكم ونهب ثروات العالم، هو الأساس القوي الذي سيجعل هذه الدول حليفاً مهماً لمحور المقاومة في مواجهة الخطر الصهيوني تماماً كما هي اليوم حليف صلب في مواجهة الخطر الإرهابي الوهابي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن