قضايا وآراء

قراءة في إستراتيجية موسكو

عبد المنعم علي عيسى :

في الأسبوع الأخير من عام 1991 كان التقلص الجغرافي الروسي قد وصل مدى لم يكن قد وصله قط منذ عام 1547م، تزامن ذلك مع تحطيم مبرمج طال الخلايا المنتجة للأفكار تلك التي كانت تسوس بلادها وتقودها عبر إيقاظ شعور داخلي في الذات الجماعية للأمة بأنها هي التي تمتلك القدرة لأن تكون القطب العالمي الآخر.
خلقت مرحلة بوريس يلتسين في السلطة (1991-1999) شعوراً لدى الأميركان بان التحطيم كان قد وصل إلى سويداء القلب الروسي، قبل أن يخترق هذا الركام في الأشهر الأربعة الأخيرة من حكم يلتسين نجم لمع بريقه على خلفية الدور الذي قام به في سحق التمرد الشيشاني الذي كان قد بدأ في عام 1994 ومن ثم امتد في آب 1999 إلى جمهورية داغستان مهدداً بالوصول إلى أبعد منها بكثير.
اتخذ بوتين من سحق التمرد الشيشاني ومن دك مركزه «غروزني» عنواناً عريضاً لاستراتيجيته ولمقارباته الجيوسياسية متخذاً من هذه الأخيرة نقطة انطلاق العملية التي هدف من ورائها إلى تثبيت دعائم الاتحاد الروسي ومنع انفراطه، ومن المهم هنا أن نذكر أن ذلك النجاح قد تحقق في ظل معاهدة (جوا إم) التي جمعت واشنطن فيها معظم جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة وجعلت منها «زناراً» كفيلاً بمنع خروج المارد من قمقمه أقله في المدى المنظور.
مع انطلاق الحرب الروسية- الجورجية آب 2008 انطلقت الصرخة الروسية معلنة شارة البدء للاستيقاظ الروسي وفي أعقابها أتقنت الدبلوماسية الروسية عملية جمع المكاسب السياسية في المحيط في قرغيزيا 2009 وفي العام نفسه كان هناك إغلاق القاعدة الجوية الأميركية (ماناس) في أفغانستان وفيه أيضاً تم الإعلان عن تأسيس مجموعة بريكس، وبعد أقل من عام على هذا الحدث الأخير كان النجاح الروسي في أوكرانيا عبر وصول فيكتور يانوكوفيتش إلى سدة السلطة في كييف شباط 2010.
على هذه الأرضية السابقة فقط يمكن فهم التصلب الروسي الذي أبدته موسكو في الأحداث السورية حيث سيشكل الفيتو التشاركي مع الصين 4 تشرين الأول 2011 مفترقاً كبيراً في العلاقة مع الغرب.
يمكن لنا أن نفهم الأعماق البوتينية بدقة عبر ما جاء في البيان التأسيسي لمجموعة بريكس الذي أكد سعيه نحو «تشكيل عالم متعدد الأقطاب» وهو المعيار الذي تحقق فيه العديد من النجاحات جلها في المحطة السورية كما في (7 أيار 2013) وفي الاتفاق الكيميائي السوري (14 أيلول 2013) ثم في القرار 2118 (27 أيلول 2013) إلا أن واشنطن –كما تبين- لم تكن مرتاحة لتلك الثنائية مع موسكو ما يفسر الأحداث في أوكرانيا تشرين الثاني 2013 وصولاً إلى إسقاط رجل موسكو في كييف يانوكوفيتش 22 شباط 2014.
قرأ بوتين الأحداث في سورية وأوكرانيا على أنها قرار سياسي أميركي بوضع حد للنهوض الروسي وهو ما دفعه أولاً إلى الرد من الجبهة الأوكرانية الأكثر إيلاماً بنقل المواجهة قدماً نحو ذرا أعلى عندما ذهب إلى ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي 18 آذار 2014.
كانت تلك العملية تمزيقاً لمعاهدة بودابست 1994 حول أوكرانيا بل رمياً لمزقها بوجه الغرب حتى إذا ما ثبت عجز واشنطن فيما بعد ذلك الحدث عن تسخين الجبهة الأوكرانية كان الاندفاع نحو التصعيد في الجبهة السورية الذي بدا وكأنه متاح أكثر بين الحدثين عملت واشنطن إلى استخدام سلاحها الأمضى بوجه القيصر (السلاح الاقتصادي) الذي سرعان ما أعطى نتائجه لتختلف الصورة بين 18 آذار 2014 ونهاية آب 2015 اختلافاً كبيراً واضحاً للعيان.
لم ينكفئ الهجوم الغربي في أعقاب كبح الجماح الروسي الاقتصادي على مدار الأشهر الثمانية عشر الأخيرة بل ذهب نحو تفصيلات في الأزمة السورية كانت أكثر من مقلقة دون أن ننسى رهان بوتين على أنها –الأزمة السورية- تحمل بين جنباتها ولادة نظام عالمي جديد.
نظرت الخلايا التي تمر بها عملية صناعة القرار السياسي الأميركي إلى قرار الدوما الروسي 30/9/2015 بمنح بوتين تفويضاً باستخدام القوة خارج حدود البلاد على أنه يشكل تحدياً للتفرد الأميركي ونهاية لـ«العنترية» الأميركية التي كانت قادرة على الدوام على التدخل خارج مظلة مجلس الأمن ومع ذلك فقد ساد الموقف الأميركي غموض بدا متريثاً بانتظار ظهور آفاق العملية الروسية في سورية ومعها تلمس النتائج التي يمكن أن تحققها على الأرض قبيل أن تذهب واشنطن نحو اتخاذ موقف واضح فكان أن اكتفت الخارجية الأميركية 2/10/2015 بالتعبير عن قلقها تجاه الضربات الروسية في سورية لم يكن مفاجئاً أن تكون أنقرة البؤرة التي يمكن أن يتشكل فيها تيار غربي مناهض للجهد الروسي في سورية فتصريح أردوغان الذي أطلقه- وكان مفاجئاً- بعد خروجه من الصلاة في جامع في موسكو 24/9/2015 لم يكن أكثر من مجاملة سياسية للقيصر ليعود سريعاً إلى سعاره القديم وليتذكر بأنه هو من ربط مصيره –ومصير حزبه- بسقوط النظام القائم في دمشق وخصوصاً أنه ارتأى في هدير الطائرات الروسية ذرواً يضع منطقته الآمنة- ومعها جهد خمس سنوات- في مهب الريح.
يمثل تصريح موشي يعالون 2/10/2015 الناري تطوعاً تبديه تل أبيب أمام الغرب للقيام برد ميداني على الضربات الجوية الروسية في سورية، وهو ما يشير إلى حالة تململ إسرائيلية ناجمة عن حالة كسل وظيفي بات ينتاب القيادات الإسرائيلية فيما يمكن أن تصل الخشية (الإسرائيلية) إلى احتمال أن تكون واشنطن في مرحلة إعادة النظر في الدور المنوط بالمخفر الغربي في المنطقة وخصوصاً بعد سلسلة الإخفاقات التي اعترت أداء هذا الأخير بدءاً من تموز 2006 مروراً ووصولاً إلى حروب غزة الأربع 2008-2009-2012-2014 هذا إضافة إلى عجزه عن كبح جماح تنامي قدرات حزب الله التي اعترف بنيامين نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة 30/9/2015 أنها تضاعفت خلال الأشهر الستة الأخيرة ما يؤكد أن تلك الضربات التي عمدت تل أبيب إلى توجيهها في الآونة الأخيرة لم تكن أكثر من تذكير يهدف إلى لفت النظر الأميركي وهو ما يؤكد أيضاً الخشية الإسرائيلية التي أشرنا إليها.
فيما بعد تعلو المواقف الغربية بوجه القيصر أم تنخفض هو أمر تقرره واشنطن وحساباتها الجديدة فهي تتلاقى مع العملية الروسية في نقطة مهمة تتمثل في سعي هذه الأخيرة إلى منع انفراط عقد الجغرافية السورية إلا أنها تختلف معها في العديد من النقاط الأخرى.
تتصاعد العملية الروسية برغم الضجيج الغربي حولها وهي لم تقم إلا لتستمر فيما يمثل إعلان الكنيسة الأرثوذكسية الروسية 1/10/2015 بأن الحرب التي يقوم بها الجيش الروسي في سورية هي «حرب مقدسة» العمق السياسي الكبير الذي تمثله في الاستراتيجية الروسية ليس في المنطقة بل على مستوى العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن