ثقافة وفن

من خصائص أهل الشام أيام زمان.. رقة الحاشية ولطف المعشر … المشيدات التاريخية تشهد بثقافة التعاضد والتعاون

| دمشق: منير كيال

تمتع أهل مدينة دمشق بخصائص عرفوا بها، وقد كان من أهمها: رقة الحاشية ولطف المعشر ورحابة الصدر، فضلاً عن التجمّل والاستغناء والبرّ.
وقد جعلوا لمدينتهم طابعاً خاصاً تمثل في علاقاتهم وطباعهم وسلوكهم وتطلّعاتهم إلى الحياة.. فأشكال التحاب والتعاضد توطد أواصر الألفة والمحبة والإيثار والوفاء بين أبناء هذه المدينة. وأعني بذلك التعاضد والتحاب بين الدماشقة ما هم عليه من إيثار بعضهم لبعض ووفائهم وأيديهم الممدودة للخير بكل زمان ومكان.

ونذكر على سبيل المثال أن من أشكال ذلك التعاضد وقوفهم صفاً واحداً كالبنيان المرصوص بالسّراء والضراء على مبدأ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فنصرة الظالم إنما هي إرشاده إلى جادة الصواب أما نصرة المظلوم فهي إيصاله إلى حقه، كما أن أشكال ذلك التعاضد قناعة الإنسان بما كتب الله له فلا ينظر إلى الآخر إلاّ نظرة الإيثار والحسد على مبدأ ازرع الخير لجارك بتلاقيه بدارك.
ويضاف إلى ذلك ما كان الناس من مهاداة بعضهم لبعض بمناسبات الأفراح كالأعراس والحج والختان.. على سبيل تخفيف الأعباء عن بعض وذلك بالقيام بالواجب نحو الزوار والضيوف ونجد بالأعراس من الجيل الذي سبقنا أن القيام بحفل تلبيس العريس ليلة العرس أو ما يعرف بالتلبيسة من المناسبات التي تكون هدية للعريس. كما نجد أن سبت الملبس من هدايا مناسبة الزواج لأن العروس بتلك الأيام لم تكن تزف ما لم يرافق هذا الزفاف ما يعرف باسم سبت الملبس، ما يزخر به من الملبس والسكاكر والنوكا بالفستق الحلبي، فضلاً عن راحة الحلقوم والشوكولا. فيأكل من يأكل من ذلك السبت، ثم يدخل السبت إلى غرفة الزواج، تتباهى العروس بما يضم ذلك السبت من أشكال السكاكر والورد وأقفاص العصافير والشنط كما كانوا يهادون الحاج بمناسبة عودته من أداء فريضة الحج بأنواع السكاكر وأكياس الرز، فضلاً عن نحر الخراف للقيام بواجب الضيافة لزوار الحاج الذي ينقطع عن كسبه، خلال مدة سفره لأداء فريضة الحج.
والأمر كذلك في مناسبة الختان (الطهور) التي كانت من أهم المناسبات التي تحتفي بها الأسرة، بإطار من العادات والتقاليد المتوارثة، ومن ذلك العراضات التي تقوم بها الأحياء للمباركة بالختان والمشاركة بهذه الفرحة بين الأحياء، وكان يرافق مهاداة أصحاب المناسبة بالخراف والولائم.
ومن جهة أخرى فإن الزغرودة (الزلغوطة) لم تكن غائبة عن المشاركة بالأفراح على تعدّد مناسبات هذه الأفراح، وكان من هذه الزغاريد يقدم أو يشارك على شكل هدية من قائلتها بمناسبة سارة ستردّ إليها بمناسبة قادمة وقد تكون على سبيل اعتراف بمعروف.
ومن جهة أخرى فإن من الممكن القول إن ذلك التعاضد والتناصر بين أبناء مدينة دمشق لم يكن مقتصراً على المناسبات الدينية أو الوطنية ومناسبات الأفراح وإنما شمل ذلك المناسبات الأخرى كالكوارث والأرزاء التي تحلّ بالمدينة أو المناطق الأخرى أو بإحدى الأسر من الأهل والجوار والمعارف. ونذكر من ذلك على سبيل المثال الحريق الذي شبّ بالجامع الأموي بمدينة دمشق سنة 1893 م ذلك الحريق الذي كاد يقضي على هذا الجامع بأقل من ثلاث ساعات يومها، هب أهل مدينة دمشق وسارعوا إلى إعادة الحياة لهذا الجامع، مسلمين وغير مسلمين، لدرجة أنه لم يعد بدمشق صاحب صنعة إلا ووضع صنعته وموهبته تحت تصرف الأموي أما الموسع عليهم فحدث ولا حرج عن سخائهم وبذلهم.
وإذا أردنا الإشارة إلى أشكال أخرى من ذلك التعاضد لدى الدماشقة لكان لنا الإشارة إلى أعمال الخير التي عرفت بهذه المدينة التي كان منها على شكل مشيدات تاريخية أو سبلان وقفت مياهها لأعمال الخير، والإفادة منها بشتى مجالات الحياة، وقد وقفت لهذه الأعمال الأموال اللازمة للإنفاق عليها وعلى القائمين على أمورها وأيضا على المقيمين بها أكان ذلك بتوفير المياه اللازمة للشرب أو الطهارة والاغتسال فضلاً عن حاجات الحيوان، ولعل من الجدير ذكره الإشارة إلى المغاطس التي كانت بجوار المساجد لدرجة أنه لم يكد يوجد مسجد بمدينة دمشق إلا وبجانب الموضأ أو دورات المياه مغطس شرعي لإسقاط الجنابة تسهيلاً لأداء فريضة صلاة الفجر حاضرة مع الإمام، إذا تعذر الذهاب إلى الحمام.
ولعل هذا يفسر ارتباط التوزيع الجغرافي لهذه الحمامات بالمساجد الكبرى التي بمدينة دمشق من حيث قرب الحمام من مسجد. ومن ذلك حمام النوفرة المعروف باسم حمام درب العجم، ونقصد به الحمام الذي كان بالقرب من الباب الشرقي للجامع الأموي، فقد كان يرتاده ثلاث دفعات من المستحمين الرجال وقد كانت الدفعة الأولى من أولئك المستحمين من المؤذنين لإسقاط الجنابة قبل صعودهم إلى المئذنة للقيام بآذان الفجر وكانت الدفعة الثانية من المصلين الراغبين في أداء صلاة الفجر حاضرة مع الإمام والدفعة الثالثة كانت قبل شروق الشمس لمن يحرص بألا تذهب عليه صلاة الفجر حاضرة مع الإمام بميقاتها.
فضلاً عن ذلك فقد أنشأ أهل الخير عدداً لا يحصى من السبلان بأحياء مدينة دمشق لتوفير مياه الشرب للدور التي لا تمتلك حقاً من مياه الطوالع التي تتمون من مياه نهر بانياس وقنوات قبل انتشار استخدام مياه عين الفيجة بجميع دور مدينة دمشق.
وقسّ على ذلك من أوقاف خيرية على هذا النحو نذكر منها ما كان لأحكام الهرر الشاردة وذلك بما يعرف بمدرسة الهرر أو القطاط بحي القيمرية بدمشق.
ومن جهة أخرى لا بد من الإشارة إلى ما كان من أمر موضوع حبس الميّت حيث كان يرجأ دفن المتوفى ما لم يسدد ما قد يكون بذمته للآخرين حسبة لوجه الله تعالى وقد استعيض عن ذلك بخمسينيات القرن العشرين بدعوة أقرب الناس إلى المتوفى فيسأله من يقوم على غسل الميت عما إذا يتحمل ما بذمة المتوفى من حقوق للآخرين ويجعله بذمته حتى يصار إلى دفن المتوفى. سقى الله أيام زمان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن