ثقافة وفن

كبوجي وحّد مشاعر الأمة على اختلاف أديانها … تكريم يستذكر نهج المقاومة الذي جسّده المطران في مسيرته النضالية

| سوسن صيداوي - ت: طارق السعدوني

النضال الراسخ والموقف الثابت بالتمسك بإنسانيتنا رسالة لابد أن تستمر وترى النور حتى لو كان حاملها قد غادرنا. وفي السنة الثالثة على رحيل المطران هيلاريون كبوجي وبمناسبة نشر كتاب «ذكرياتي في السجن» للكاتبين سركيس أبو زيد وأنطوان فرنسيس، كرّمت دار النشر(دلموند) المطران بإقامة ندوة في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، تخلّلها فيلم وثائقي للدار، وفيلم توثيقي عن المطران كبوجي. بعدها تقدّمت مديرة الدار بكلمة، ولتتتالى بعدها كلمة كل من: الأب إلياس زحلاوي، د. حسن حمادة، الكاتب سركيس أبو زيد. مع كلمة مسجلة للمناضلة الفلسطينية ليلى خالد ثم تم توزيع أدرع تكريمية، واختتمت الندوة بتوقيع كتاب«ذكرياتي في السجن».
للمزيد حول الندوة نقدم لكم:

كلمة الدار

بينت مديرة دار(دلمون الجديدة) السيدة عفراء هدبا بأن كتاب «ذكرياتي في السجن» الذي أصدرته الدار هو تأكيد على أن شخصية المطران كبوجي لا يمكن اعتبارها شخصية دينية، بل هي تجاوزت الرسالة الكهنوتية المتعارف عليها للبطاركة والآباء المسحيين، فلقد تجاوزها للدفاع عن الشعوب والدفاع عن الكرامة، مضيفة: «لقد تصدى المطران كبوجي للمحتل الإسرائيلي في حياته للدفاع عن فلسطين أولا، ومن ثم سورية وكل الدول العربية، وحتى للدفاع عن القضايا الإنسانية، فهو شخصية عالمية تجاوزت حدود الوطن الواحد».

صداقة ووحدة بالموقف

بدأ الأب إلياس زحلاوي كلمته بالتعبير عن أن بوح الكلمة هو كالنافذة إزاء ما شاهدنا وسمعنا من مواقف المطران كبوجي، مشيراً إلى أن الحديث يطول حتى لو أراد فقط أن يشير ولو قليلاً إلى مسيرته الطويلة مع المطران والتي امتدت من عام 1952 وحتى وفاته، متابعاً بأنه ارتأى أن يكتب كلمته في جوهر رسالة المطران كبوجي، لعلها توقظ ما يحصل اليوم ولاسيما في كنائس الغرب والشرق من مواقف تستدعي دفن الرأس كالنعامة خجلاً، على عكس المطران كبوجي الذي بقي رافعاً رأسه وفق تعاليم السيد المسيح، بأن يرفع الإنسان رأسه لأنه خليفة اللـه على الأرض، وفي كلمته تابع: «أجل، كان من حقّ المطران إيلاريون كبوجي، ومن واجبه في آن واحد، أن يكون مقاوماً…
وإلاّ، فقد كان عليه، في الحدّ الأدنى، أن يتنحّى ويعتزل! ولكن، هنا، هنا بالذات، كان ذنبه!
لم يكن ذنبه في أنه قاوم!
بل كان ذنبُه الذي لا يُغتفَر، فقط في أنه قاوم الصهيونية!
وإني لأصرّ على ذلك.
فالحقيقة أن للصهيونية في الغرب، كلّ الغرب دون استثناء، جذوراً عميقةً، في تاريخٍ طويل ومرير. وهي جذورٌ تعود إلى يوم، لم تكن فيه الصهيونية، لألفي سنة خلت، سوى مجرّد ديانة يهودية، تبطش بأتباع السيد المسيح، دون رحمة، وأينما كانوا… وكانت لها اليد الطولى في الإمبراطورية الرومانية!
وكان أن جاء الإمبراطور قسطنطين، في مطلع القرن الرابع، وأقرّ للمسيحية، عام 313، بحقّها في الوجود.
ثمّ شيئاً فشيئاً، أقام معها، بوصفها القوّة الجديدة الصاعدة، حلفاً عجيباً… اختلطت فيه أمور الدنيا بأمور الله، على نحو غريب!
وكان أن انزلقت المسيحية في منزلقات السلطة الزمنية، وتحوّلت في ما تحوّلت إليه، إلى مؤسّسة ظنّت أن في سياسة التضييق على اليهود، والبطش بهم، سبيلاً إلى إرغامهم على اعتناق المسيحية…
ومن هنا، كانت اللاسامية المشؤومة، التي استطالت مئات السنوات، وذهبت في تفاقمٍ واتّساع، لا يهدأان، حتى بلغت ما بلغته في عهد هتلر!
وعندها فقط، أجل عندها، أخذت الكنيسة الغربية تستيقظ من سقطاتها المروّعة، ولاسيما بشأن اللاسامية، فركبت جميع مسؤوليها، كباراً وصغاراً، عقدةُ ذنبٍ مَرَضيةٌ رهيبة، فأخذوا يبحثون معها عن وسيلة ما، للتكفير عن خطيئتهم تلك!
وانصبّ هذا التكفير على الشعب الفلسطيني أوّلاً، ومن ثمّ على الشعوب العربية، كما رأينا، وكما نرى، وكما سوف نرى!
تلك هي، في نظري، خطيئة المطران كبوجي الكبرى… والوحيدة!
وإنّها لَخطيئةٌ لا مغفرة لها، من منظور الكنيسة الغربية، وعقدة ذنبها الرهيبة.
والدليل على ذلك، أن المقاومة في غير فلسطين بطولة!
هي بطولةٌ يُكافَأ عليها بعضهم، من قبل الكنيسة الكاثوليكية إيّاها، بالتكريم، مثل المطران الألماني «كليمنت فون غالن»، الذي اشتُهر بمقاومته الصريحة لهتلر، وهو على رأس عمله، في مدينة مونستر، حتى إنه لُقِّب بأسد مونستر.
ويُكافَأ بعضهم الآخر بالتقديس، مثل المطران «أوسكار روميرو»، مطران السان سلفادور، الذي قُتل عام 1980، وهو يُقيم القداس الإلهي، لأنه كان أبداً يدافع بقوة كلمته، عن فلاحي السلفادور، ضد الطغمة العسكرية، المتحالفة مع الولايات المتحدة».

ظاهرة تشجب الاتجار بالدين

الإعلامي والكاتب د. حسن حمادة في كلمته لفت إلى العلاقة الوطيدة التي ربطته بالمطران كبوجي، وخلالها كيف تعرّف عليه كرجل دين وإنسان وصديق، مؤكداً أن الدول الغربية هي دول منتهجة للكذب والخداع لشعوبها في كسب تأييدهم بقضايا سامية، في حين أنه بواقع سياساتها تنتهج كل قمع وتسلّط مع احتلال وسرقة ونهب الشعوب الأخرى وهذا بطبيعته منافٍ لمبادئها، كما أشار إلى أن الفيلم التوثيقي الذي تم عرضه خلال الندوة ومدته نحو ربع ساعة، هو فيلم رائع جداً، وسلّط الضوء على أمور لم نرها من قبل، ومن كلمته نقدم لكم «ما أؤكد عليه بأن المطران كبوجي حتى يومنا هذا لم يأخذ حقه على الإطلاق، فهو رجل بسيط ومكافح، وباختصار لا أجد كلمة أهم من أن تمثله، من أنه كان رجلاً (مسيحياً)، وبصفته الكنسية دُرج على تسميته كرجل دين».

الطريق إلى فلسطين كدرب الجلجلة

تحدث عضو مجلس الشعب أ. نبيل صالح عن عزيمة المطران كبوجي في تأقلمه مع اعتقاله عندما أدرك أن وجوده في المعتقل يشكل جوهر نضاله الإنساني، متابعاً: «لقد تأقلم معه، وكأنه باقٍ إلى الأبد، فكانت مرافعاته أمام جلاديه، بمنزلة صلاة للرب والشعب، كما ورد في مذكراته القيّمة التي دونها الزميلان سركيس أبو زيد وأنطوان فرنسيس في روما، وطبعتها درا (دلمون) السورية مؤخراً، لتعيد تذكيرنا بالرجل الذي حاصر حضارة وهزم سجانيه ووحّد مشاعر الأمة على اختلاف قومياتها وأديانها، إلى أن جاءنا الإخونج وفصائلهم التي فككت الصف المقاوم، إذا أسلموا القضية الفلسطينية، وأعادونا إلى (سقيفة بني ساعدة)، واختزلوا قدسنا المسجد الأقصى، وحولوا صراعنا القومي الموحد لنا، إلى صراع ديني مفرّق بيننا، فخدموا منطق الإسرائيليين ومزاعمهم التاريخية المبنية على الأساطير الإبراهيميّة، وهذا أسوأ ما مرت به القضية الفلسطينية، حيث بات المطبّعون يستشهدون بها ليعيدوا سيرة يهوذا، ويبيعوا فلسطين ببراميل من النفظ الأسود، يؤكد ذلك إعلان أكبر أعدائنا بنيامين نتنياهو الذي قال مفتخراً قبل بضعة أيام: لقد تغلبنا على التهديد الكبير الذي تمثّل بالقومية العربية».

كبوجي رائد المقاومة العربية

من جانبه أكد الباحث سركيس أبو زيد صاحب كتاب «ذكرياتي في السجن» والذي تم الاحتفال بتوقيعه بمناسبتنا هذه بأن المواقف المقاومة لمطران القدس انطلقت منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية في عام 1967، متابعاً: «في هذا العام أسس مطران القدس هيلاريون كبوجي أول خلية فدائية في المدينة المقدسة، جاعلاً من عباءته الكهنوتية درعاً لمقاومة سلطات الاحتلال، وتحوّل راعي الأبرشية إلى همزة وصل سرية بين المقاومين في الداخل، متسلّحاً بإيمانه وشجاعته وحصانته الدبلوماسية، معتبراً أنه لا يستطيع أن يكون محايداً وهو يرى رعيته تتبدد وشعبه يقهر ويقتل، فقرر مقاومتهم بكل ما أوتي من قدرة، وبشتى الوسائل، فسار على طريق المسيح الذي استعمل القوة لطرد لصوص الهيكل.
وفي هذا التكريم نستذكر معاً نهج المقاومة القومية الذي جسده، فقد مثّل المطران من خلال مسيرته مجموعة قيم أبرزها(لاهوت المقاومة)، وهو مفهوم ونهج نضال سبق لاهوت التحرير والمواقف البابوية المتحررة من قيود التقليد والتحالف مع الاستبداد والسلطة وقد تكرس هذا النهج ببناء (وقفة حق) التي سجلها ممثلون عن الطوائف المسيحية في فلسطين ضد الاحتلال ومع شرعية المقاومة».

لاهوت التحرير

من جانب الحضور جمعنا الحديث مع الكاتب سامي سماحة الذي جاءنا من لبنان لحضور الندوة، حيث أشاد بشخصية المطران كبوجي، معتبراً إياها حدثاً عابراً في بلادنا، وشخصية خارجة عن الألقاب والأوصاف، وتحت العنوان أعلاه تابع: «إن تعبير(لاهوت التحرير) هو التعبير المناسب لعملية التجديد التي أطلقها المطران في عمل الكنائس والمطرانيات، لأنه أخرج اللاهوت من معنى فقه الأديان، إلى معنى وظيفة الأديان في عملية تقرير مصائر الشعوب، ودور الأديان في حركات المقاومة التي تدافع عن حقوق الشعوب في أرضها وأوطانها.
(لاهوت التحرير) الذي أطلقه المطران كبوجي أعطى المسيحية بعدها الحقيقي في الصراع القائم في العالم بحيث لم تعد المسيحية، من ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر، ولم تعد المسيحية مشروع مساعدات عينية تقتصر على المواد الغذائية والثياب والأحذية، بل أصبحت المسيحية مع المطران الفدائي، موقفاً نضالياً معلناً ضد الظلم واغتصاب الأرض في أي بقعة من بقع الأرض.
وأخيراً لقد أعاد إلى المسيحية فكرة الفدائي في سبيل الوطن والقيم الذي لا يساوم ولا يهن حتى لو اضطر أن يدفع حياته ثمناً لمواقفه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن