قضايا وآراء

بين المكابرة الأميركية والواقعية الروسية: هل تستسلم أميركا للأمر الواقع؟

فرنسا – فراس عزيز ديب :

مع بداية الغارات الجوية الروسية في سورية، أطلق بطريرك روسيا موقفه المؤيد لهذه الغارات وأردفها بعبارة «إنها حربٌ مقدسة»، لتبدأ بعدها حملة شعواء تنتقد هذا المصطلح. طبعاً هنا لا نتحدث عن التصريحات التي صدرت من الحلف المشارك في الحرب على سورية، لأنها أساساً لا تعنينا، بل الكلام موجهٌ لمن يدَّعي حرصه على الشعب السوري ومؤيدٌ لهذا التدخل وانتقد ولو ضمنياً هذه التصريحات، أو بأحسن الأحوال اعتمد مبدأ النأي بالنفس. في الحقيقة لا تبدو المشكلة في هذه العبارة، لكن المشكلة هي في طريقة فهمنا لهذه العبارة، فمن قال أساساً إن مصطلح «الحرب المقدسة» مرتبطٌ بالحروب الدينية؟ ربما هذا الأمر هو «سذاجةٌ فكرية»، فعندما تفرض على شخصٍ ما حرباً فإن قدسية هذه الحرب تنطلق من قدسية الشيء الذي يدافع عنه، هذه القدسية هي التي تكوِّن العقيدة القتالية التي يستشهد المقاتلون لأجلها، فلولا قدسية «سورية الوطن»، هل كان أبناؤها سيسارعون للدفاع عنها مرتقين شهداء. كذلك الأمر فإن الحرب على الإرهاب وإنقاذ المنطقة والعالم من برميل البارود الذي بات على أعتاب الانفجار هي حربٌ مقدسة، تحديداً أن الإرهاب لا حدود له، لكن للأسف هناك من لا يزال يظن أنه قادر أن يحمل العصا من المنتصف فيما يتعلق بما يجري، ويبيعنا التصريحات «الرمادية» التي لا تصيب كبد الحقيقة، فلماذا هذا الخوف من قول الحقائق كما هي؟ تحديداً أن الحقائق لم تعد خافيةً على أحد والتطورات المتسارعة تثبت أن الشعب السوري بالكامل كان وقوداً لنار الغدر والحقد التي تنوعت انتماءات من أوقدوها، والقصة ببساطة أن لكل فعل رد فعل يوازيه بالقوة ويعاكسه بالاتجاه، فهل بدأت ملامح هذا الأمر تتجسد عملياً؟
منذ أسابيع عندما قلنا (إذا ما كبرت مارح تصغر)، ظنّ البعض أننا نبيع القارئ الوهم. بدأت الغارات الروسية على مواقع التنظيمات الإرهابية في سورية، مترافقةً مع تقدمٍ بري لقوات الجيش العربي السوري، ستظهر نتائجه المتسارعة تباعاً. حتى اللحظة كان الروس يريدون إظهار نوعٍ من الانفتاح على كل من يريد العمل بشكلٍ جدي للقضاء على الإرهاب، لكن هذا الأمر لم يمنعهم من إرسال بعض الرسائل لمن يهمه الأمر، فكانت الرسالة الأولى هي صواريخ بحر قزوين، فما الهدف منها؟ تُجمع بعض الأوساط الأمنية الأوروبية أن الصواريخ الروسية كانت نوعاً من «الترف الهجومي». لم يكن الروس مضطرين أبداً لإطلاق هذه الصواريخ بذريعة الحرب على داعش، فالطيران السوري (القديم نوعاً ما مقارنة بالروسي) استطاع الوصول لمعاقل داعش وقصفها مرات عدة، أما الطيران الروسي الناشط الآن في السماء السورية فهو يراقص «شياطين الإرهاب» كما تراقص الكوبرا خيال المزمار. كذلك الأمر فإن ربط الحدث بتوجيه رسائل لأردوغان هو نوعٌ من إعطاء هذا العثماني تضخيماً يفوق حجمه، فأردوغان قد يفهم المطلوب من خلال «اختراق جوي عن طريق الخطأ». عليه تبدو الأمور متعلقةً برسائل موجهةٍ للأميركي حصراً باعتبار أن المعركة الآن باتت فعلياً بين مكابرةٍ أميركية وواقعيةٍ روسية، فالرسالة هي رسالة على أعلى مستوى مرتبطة بسباق التسلح (الأميركي- الروسي)؛ بمعنى آخر أراد الروس من خلال الطريق الذي عبرته الصواريخ القول للولايات المتحدة: ليس بحاملات الطائرات وحدها تفرض الدول وجودها. أما الرسالة الأهم فهي أن المعركة الروسية في سورية لن يُستثنى منها أي جزءٍ من التراب السوري، بما فيها تلك المناطق التي تحلق فوقها طائرات التحالف، فهل أن الولايات المتحدة ستُبقي على المكابرة والاعتقاد بأن ما يقوم به الروس هو نوعٌ من فورة غضبٍ ستتلاشى، أم إن سلاح «الناتو» جاهزٌ ليتم إشهاره؟
بالتأكيد لم نعد بحاجةٍ للإكثار من الشرح عن مدى التخبط الأوروبي تحديداً بما يتعلق بالحرب على سورية. كان لافتاً منذ أيام الهجوم الذي شنته «مارين لوبان» على كل من فرانسوا هولاند وميركل بحضورهما أمام جلسةٍ للبرلمان الأوروبي. إن كنا قد وصفنا هولاند بمستشارٍ لمشيخات «البتروديمقراطية»، فإن لوبان حاولت ترفيعه درجةً عندما وصفته بنائبٍ للمستشارة ميركل. حاولت ميركل الهروب من اتهامات لوبان بالسيطرة على أوروبا أو ما يسميه اليمين الأوروبي المتطرف «أسلمة أوروبا» من خلال ملف الهجرة، بدعوتها الأوروبيين لما سمته «العودة لمسيحيتهم»، بل أكثر من ذلك هي تحدثت صراحةً مع أردوغان أن لا مكان لتركيا في أوروبا من دون أن تتجرأ على شرح الأسباب الحقيقية علماً أن هذا الأمر كررناه كثيراً بأن الأوروبيين لن يقبلوا بتركيا مهما قدم أردوغان من تنازلات. إن التدقيق الجيد في هذا الضياع الأوروبي يؤكد أنه انعكاسٌ لتشتت دول الناتو ونظرتها لأحداث المنطقة، فالأتراك ما زالوا يتوسلون المناطق العازلة، والآن يطالبون بتفعيل المادة الخامسة من اتفاقية الناتو المتعلقة بالدفاع عن الدولة التي تتعرض لاعتداء. الناتو رفض تطبيق هذه المادة عندما أسقطت الدفاعات الجوية السورية مقاتلةً تركيةً بذريعة أنه لم يكن هناك اعتداء. ما جرى يومها أسقط فكرة أن الناتو يبحث عن ذريعةٍ لاقتحام سورية، بل هو بحثٌ عن ذريعةٍ «قانونيةٍ» ليهرب فيها من التدخل في سورية، فماذا تغير؟
هدد الناتو قبل أيام بنشر قواتٍ له في تركيا بعد الخرق الروسي للأجواء التركية، يبقى هذا الأمر في ضوء التهديدات المنتهية الفاعلية، وهنا نذكِّر بالهالة الإعلامية التي ترافقت مع نشر الناتو لبطاريات الباتريوت في الجنوب التركي، وأين هي الآن؟ ثم إن على العدالة والتنمية أن يجيب عن سؤالٍ أساسي: هل وجود قوات الناتو في تركية سيحمي المعارضين الأتراك من تفجير أماكن وجودهم كما حدث بالأمس، ما أدى لسقوط قتلى في تكرار للمشهد ذاته منذ أشهر في الجنوب التركي، أم إن الناتو بات فعلياً يدعم رسائل أردوغان في الانتخابات القادمة… أنا أو الفوضى؟ أمّا عودة الحديث عن مناطق عازلة في الشمال السوري فهنا علينا تجزئة الفكرة لسؤالين متعلقين بآلية التنفيذ: هل تطبيقها سيتم بالتعاون بين الأميركيين والأتراك حصراً؟ أم إنها ستتم عن طريق الناتو كحلفٍ يدعم من يسميها «المعارضة المعتدلة» التي لم يعد أحد يعرف أماكن وجودها؟ بكلا الحالين هناك مواجهةٌ قادمةٌ في حال البدء فعلياً بتطبيق الفكرة، فهل سنصدق أن الناتو بكامله سيحارب ليأتي بـ«هيثم المالح» رئيساً لسورية! وإن كان الناتو أخذ قراراً فعلياً بالمواجهة مع روسيا، عندها لا يمكن لنا أن نتنبأ بما سيجري في العالم وليس المنطقة. هذا الكلام عندما كنا نقوله سابقاً كان منتقدونا يتساءلون: وماذا سيفعل الروس؟ اليوم نحن نتحدث والتحالف الرباعي يعيش أجمل أيامه، بل إن العراقيين بدؤوا فعلياً مباحثاتٍ من أجل طرح فكرة تعاون مع روسيا على الطريقة السورية، فهل سيسمح الأميركيون بذلك؟ من يدقق بتصريحات البنتاغون منذ أشهر حتى الآن لايجد فيها جديداً، هي تماماً كبعض مسلسلات الدراما السورية التي هربت مؤخراً من الحديث عن الواقع ففعَّلت رماديتها، لتجتر رواياتٍ عالمية، فتغيب عن المسلسل لحلقاتٍ وتعود فلا تكتشف أنك فقدتَ الأحداث، هكذا هي تصريحات البنتاغون تارةً يريد إلغاء برنامج دعم المعارضة وتارةً أخرى يريد إصلاح هذا البرنامج، وتارة يقولون إن الأمر متعلقٌ بخطابٍ قادمٍ لأوباما سيحدد فيه الآلية والإستراتيجية. المشكلة أن هناك من لا يزال يعتقد بأن أوباما لديه إستراتيجية، وأن المشكلة هي بالبرنامج وليست بمرجعية المرتزقة الذين يتم استجلابهم، حتى مايُحكى عن تعاونٍ أميركي مع جيش الفتح لا يبدو منطقياً. تحديداً إن مقرات هؤلاء الإرهابيين يتم قصفها، بل هناك تقدمٌ بري للجيش السوري في محاور سهل الغاب والجسر، ما يعني أن الولايات المتحدة تحاول ببطءٍ أن تنسحب من هذه الفوضى وترك حلفائها يواجهون مصيرهم بهدوء، فأين نحن ذاهبون؟
بالفكرة الأساسية لا تسأل ماذا ستفعل الولايات المتحدة بحلفائها، بل عليك أن تسأل ماذا فعل حلفاء الولايات المتحدة بأنفسهم، وهذا الكلام على مستوى الدول لا التنظيمات الإرهابية فحسب. فعلى سبيل المثال هل كان بريئاً تسريب الغارديان البريطانية لرسالةٍ من الديوان الملكي لـ»آل سعود» يطالب فيها وزير المالية بخفض النفقات للحدود الدنيا خلال الأشهر الثلاثة المتبقية من العام الحالي، بما فيها توقيف مشاريع وتعيينات حكومية؟ ساذجٌ من يظن أن ما يفعله الحلف الرباعي الآن هو حربٌ على الإرهاب فقط، هي حربٌ على الإرهاب بكل أنواعه بما فيها الإرهاب الاقتصادي، فهل ستقبل روسيا برفع سعر النفط مجدداً لإنقاذ ميزانية «آل سعود»؟ وإن افترضنا أنه تم إنقاذ ميزانية «آل سعود»، من ينقذ «آل سعود» من ورطتي اليمن وسورية؟ هل حقاً أن الولايات المتحدة جاهزةٌ لهذه المهمة عبر تفعيل الدعم للمعارضة المسلحة وخلق حالة صدامٍ مباشرٍ بين مشيخات النفط والروس في حال وصول السلاح المضاد للطيران للإرهابيين؟ لا يبدو من خلال المعطيات أن أحداً سيجرؤ على ذلك، وعليه لا يبدو أن الولايات المتحدة الآن بوارد إنقاذ أحدٍ، فما كانوا يسمونه «انتفاضة درعا» بات الآن «انتفاضةٌ في القدس»، يتولاها المناضلون الفلسطينيون والأمر مرشحٌ للتوسع. ألم نقل منذ البداية أن قدسية الحرب تأتي من قدسية ما تدافع عنه… وهل هناك أقدس من الدفاع عن «الانتماء للحضارة»… في وجه القادمين من خارج التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن