ثقافة وفن

في واقعِ أدبِ الأطفال السُّوريّ … معاً نصنعُ كُتّابَـنا الذين يحتاجهم الطفل

| قحطان بيرقدار

كثيرةٌ هي المشكلات التي تكتنفُ الأدبَ الموجّه إلى الطفل في وطننا، ولعلّ من أبرزها الحضور القويّ للشابكة، وتأثيرها العميق في أذهان أطفالنا، وجاذبيتها الكبيرة لهم على حساب الكتاب الورقيّ، إضافة إلى اتّسام الأدب الطفليّ المُنتَج لدينا بالضعف والركاكة والتكرار والوعظ والإرشاد المباشر في الغالب الأعمّ، واحتلال أدبِ الأطفال الغربيّ المترجم بعجرهِ وبجرهِ مساحةً كُبرى على حساب الإنتاج المحليّ. والمفارقة هي أن أسعار كُتب الأطفال- كما شهدتْ بذلك معارضُ كِتاب الطفل التي أُقيمتْ في السنتين الأخيرتين- لا تزالُ آخذةً في الارتفاع يوماً بعد يومٍ على الرغم من اتِّصافها بما ذكرناه.

وممّا لا ريبَ فيه أن الكتابةَ للأطفال هيَ من الصُّعوبة بمكان، وإنْ أردنا التَّخفُّفَ قليلاً قُلنا إنها من السَّهل الممتنع، نظراً إلى وُجوبِ أن يكونَ كاتبُ الأطفال مُلِمّاً بمجموعةِ معارف تَخُصُّ عالمَ الطِّفل، تربويّة ونفسيّة واجتماعيّة وفلسفيّة وغيرها، وأن يكونَ مُتعمِّقاً بأساليب مخاطبة الطِّفل الّتي تُمكِّنُهُ من دخولِ عالمه والتأثير فيه، ونعني بالطِّفل هُنا طفل اليوم لا طفل الأمس، يُضافُ إلى ذلك أن تحديدَ ماذا نكتبُ للأطفال أمرٌ في غايةِ الصُّعوبة، ولاسيما أن الأطفال في العصر الرّاهن يختلفونَ عن الأطفال في العُصور السَّابقة لأسبابٍ كثيرةٍ، مِن أبرزِها التَّطوّر التّكنولوجيّ المُتسارِع، وما فَتَحَهُ من آفاقٍ أمام أطفال اليوم لم تكن متاحةً من قبل.
ولعلَّ المشكلة الكُبرى الّتي تُطالِعُنا في هذا السِّياقِ هيَ قلّةُ كُتّاب الأطفال الجيّدين لدينا أو ندرتهم، فالكثرةُ الكاثرة من كُتّاب الأطفال في وطننا لا يملكون المقومات الكافية لإنتاج أدبٍ حقيقيٍّ يليقُ بالطفل السوري، إذ ثمّةَ حالةٌ من عدم الفهم لكثيرٍ من المسائل والشروط التي تتعلّقُ بأدب الأطفال لا يفهمها هؤلاء الكُتّاب، منها على سبيل المثال: الخلطُ بين المراحل العمرية للطفولة، وعدم إعطاء كُلِّ مرحلةٍ حقَّها وخصوصيّتها وما يليقُ بها، والخلطُ أيضاً بينَ ما يُكتَبُ للأطفال، وما يُكتَبُ عنِ الأطفال، وعدمُ أخذِ الناحية التربوية في الحسبان في أثناء الكتابة، وعدم الإحاطة بتفاصيل عالم الطفل الراهن ومفردات هذا العالم وثقافته، فيكونُ النتاج غالباً أبعدَ ما يكون عن أدبٍ حقيقيٍّ يهمُّ الطفلَ ويَشُدُّهُ، ويُحدِثُ أثرَهُ الإيجابيّ فيه.
وأمام هذه المشكلة، لا بدّ من تضافر جهود جميع الأفراد والمؤسسات المعنيّة بالطفل في وطننا في سبيل الارتقاء بما يُقدَّم للطفل، ولعلَّ أول ما يمكن الالتفات إليه هو أن نصنع كُتّابَنا الحقيقيين، ومن المعلوم أن الكاتبَ لا يُصنَعُ صَناعةً، غيرَ أن المقصود بصُنع الكُتَّاب هُنا هو أن نأتيَ إلى مَنْ نَتلمّسُ فيهم موهبةً حقيقيّةً في الكتابة، فنمدُّ لهم أيدي العون والرِّعاية، بمعنى آخر أن نعملَ على تأهيل الكوادر المتخصصة القادرة على إبداع كلِّ ما يليقُ بطفلنا السُّوريّ، وهنا لا بدّ من أن يكون للأدب المُوجّه إلى الطفل حيِّزٌ أكاديميٌّ في جامعاتنا يُؤهِّلُ الطُّلّاب ويُمِدُّهُم بكلِّ ما يتّصل بعالم الكتابة للطفل، وأنْ تقيمَ الجامعات والمؤسّسات المعنيّة بالطفل دوراتٍ وورشَ عملٍ تخصصيّة في الأدب المُوجّه إلى الطّفل بأجناسه كافّة بإشراف متخصصين مشهود لهم، يتمُّ فيها تأهيل مَنْ لديهم الموهبة والرغبة في الكتابة للأطفال على أسسٍ منهجيّة سليمة، ويمكن أيضاً أن تنهضَ جمعيةُ أدب الأطفال في اتّحاد الكُتّاب العرب بدورٍ مُميّز في هذا المجال، وكذلك مديرية ثقافة الطفل في وزارة الثقافة، ومديرية منشورات الطفل في الهيئة العامة السورية للكتاب… كلُّ ذلك في إطار خطّةٍ وطنيةٍ مدروسةٍ يكونُ هدفها إعداد كُتّاب حقيقيين للأطفال يرتقون بالأدب المُوجّه للطفل في وطننا على الصُّعد كافّة.
وممّا يمكن أن يلعب دوراً إيجابياً في هذا المجال، إقامة مسابقات كبرى في أجناسِ الأدبِ المُوجَّه إلى الطفل ورصد جوائز مالية قيمة لها، تُشجّع الأدباء السوريين الّذين يَتوجّهون إلى الأطفال على مزيدٍ من العمل والعطاء، وتخلقُ حالةً من التنافس الإيجابيّ بينهم، وكلُّ ذلك يصبُّ في مصلحة الأدب المُوجّه إلى الطفل في وطننا، مّا يسهم في ارتقائه وجَعْلِهِ أدباً مُنافِساً بين آداب الشعوب الأُخرى، ولا ريبَ في أن لدينا كثيراً من الطاقات والمواهب الشابة التي تحتاج إلى رعايةٍ وتوجيهٍ لتتبلورَ تجاربها وتؤتي أُكلَها، وترفد وطنَها بإنتاجها بدلاً من أن تتوجّهَ نحو دورِ النشر الخارجيّة التي تُقدِّم لها المقابل الماديَّ الأكثر جدوى.
لا ريبَ في أن واقع الأدب المُوجّه إلى الطفل في وطننا غيرُ مُبشِّر على نحوٍ أو آخر، وأنّ الفوضى والارتجال والعشوائيّة تسودُ المشهد عموماً، ولاسيما مع ازدياد عدد دور النشر التجارية التي تتوجّهُ في منشوراتها إلى الطفل، فتهتمُّ بالمظهر الخارجيّ للمنشور على حساب المضمون الّذي يعاني في أغلب الأحيان من مشكلاتٍ فنية ومنهجية كبيرة تنعكسُ في نهاية المطاف سلباً على ثقافة أطفالنا وشخصياتهم ومستقبلهم. وفي هذا السِّياق أرى أن الجهود التي تبذلها وزارة الثقافة في هذا المجال جهودٌ مُبشِّرة، لكنّها وَحْدَها لا تكفي، إذ إن الأمر يحتاج إلى مشروعٍ وطنيّ شامل تنهض به المُؤسّسات المعنيّة بالطفل كافّةً في مجتمعنا، وريثما يتحقّقُ وجودُ مثل هذا المشروع، ما على الأقلام والمنابر الواعية إلا أن تُنادي وتُذكِّر من منطلق الحرص على ثقافتنا وثقافة أطفالنا الّذين هم أغلى ما في الوجود.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن