ثقافة وفن

مبادرات وطنية تحفز الجامعات على تحسين أدائها

| أ. د. وائل معلا

تطلق الحكومات في العديد من بلدان العالم مبادرات لتحفيز جامعاتها الوطنية على رفع مستوى أدائها سواء أكان ذلك بتحسين جودة برامجها التعليمية ومواءمة خريجيها مع متطلبات سوق العمل من حيث المعارف والمهارات، أم بزيادة مخرجاتها من البحث العلمي كمّاً ونوعاً وتشجيع باحثيها على النشر العلمي في أرقى المجلات البحثية، أو بتحسين الخدمات التي تقدمها للمجتمع والعمل على دمج المسؤولية الاجتماعية وقضايا التنمية المستدامة في المناهج الدراسية والبحث العلمي. ومن أهم الأمثلة على تلك المبادرات الوطنية «المشروع 5 – 100» الذي أطلقته وزارة التعليم والعلوم الروسية في عام 2012، والذي يهدف إلى تحسين المكانة العالمية للتعليم العالي الروسي والوصول بخمس جامعات على الأقل من بين المشاركين في المشروع لتكون بحلول عام 2020 ضمن أفضل 100 جامعة في العالم. وهناك الخطة التنفيذية لوزارة التعليم العالي المصرية للارتقاء بتصنيف الجامعات المصرية، والتي ترتكز على تشجيع الجامعات من أجل زيادة النشر الدولي في أهم المجلات العالمية وفي جميع فروع العلوم، وعلى زيادة البرامج المشتركة مع الجامعات العالمية ذات التصنيف الدولي المتقدم، وقد نجحت هذه الخطة في إدراج 20 جامعة مصرية في تصنيف التايمز الدولي للعام 2020.

ومن المبادرات المهمة التي أطلقت مؤخراً ضمن هذا السياق مبادرة أطلقها وزير التعليم الأسترالي دان تيهان Dan Tehan والتي سيتم بموجبها إخضاع جامعات أستراليا الحكومية الأربعين، اعتباراً من بداية العام الحالي، «للتمويل القائم على الأداء» Performance-based funding. وقد أطلق تيهان على هذه المبادرة «لحظة تحوّل للتعليم العالي في أستراليا».
يُعتمد في هذه الخطة على أربعة «مقاييس أداء رئيسية» في تحديد قيمة الدعم المالي الذي تقدّمه الحكومة لكل جامعة. هذه المقاييس هي: نتائج توظيف خريجي الجامعة في سوق العمل؛ ونسب نجاح الطلاب في البرامج التعليمية للجامعة؛ والتجربة الطلابية لطلاب الجامعة والتي تشمل جميع جوانب حياة الطلاب ضمن الحرم الجامعي، من الدراسات الأكاديمية، والخدمات التي تقدمها الجامعة لطلابها، والنشاطات الاجتماعية والرياضية، وغيرها؛ ومدى التنوّع الاجتماعي للطلاب المنتسبين والطلاب من أبناء المناطق النائية.

محاذير التمويل القائم على الأداء
لم تحظ مبادرة «التمويل القائم على الأداء» بإجماع كل الأطراف الفاعلة في قطاع التعليم العالي الأسترالي، فقد حذر الاتحاد الوطني للتعليم العالي National Tertiary Education Union (NTEU) من احتمال أن يكون لهذه المبادرة العديد من العواقب السلبية، إذ إن بعض الأمور قد تكون خارجة عن إرادة الجامعة وسيطرتها كمعدّلات توظيف الخريجين. كما أن معيار مواءمة الخريجين مع متطلبات سوق العمل من شأنه إضعاف برامج تعليمية جامعية الطلب عليها منخفض لكنها أساسية للمجتمع (كالخدمة الاجتماعية وغيرها). كذلك فإن اعتبار نسب نجاح الطلاب في البرامج التعليمية للجامعة كأحد المعايير الأساسية التي تقوم عليها المبادرة قد يشجع بعض الجامعات على تخفيف معاييرها الأكاديمية بغية تحسين معدلات النجاح فيها ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض سمعة الجامعات ومكانتها.
لم يثنِ ذلك كله الحكومة الأسترالية عن المضيّ قدماً، معتبرة أن «التمويل القائم على الأداء» سيحفز الجامعات بالتركيز على مهمتها الأساسية وهي إنتاج خريجين جاهزين للوظائف في سوق العمل ولديهم المهارات اللازمة للنجاح في الاقتصاد الحديث، وأنّ «النظام الجديد سيساعد الجامعات على قيادة الطريق نحو دفع نمو الإنتاجية في جميع أنحاء البلاد على مدار العقد المقبل».

جامعاتنا والمبادرات التحفيزية
إن إطلاق مشاريع وطنية مركزية لتطوير أداء الجامعات بات من الأمور الملحّة. وقد يكون من المفيد إعادة النظر في الأسس التي يبنى عليها تقديم الدعم المالي الحكومي للجامعات الحكومية، وصولاً إلى اتّباع خطة تمويل حكوميّ جديدة سيترتّب عليها من دون شك المزيد من المساءلة عن إنفاق الأموال العامة على أولويات وطنية محددة في التعليم العالي، وتعزيز وتطوير آليات ومعايير تقييم الأداء السليم للجامعات في عمليتي التعليم والتعلم والخدمة المجتمعية. كما تفترض مثل هذه الخطة خلق حوافز مالية لتحسين مجالات محددة من أداء الجامعات.
من أهم الأمثلة على ذلك المشروع الروسي 5 – 100 للتميز الأكاديمي الذي تضمن منح ما يصل إلى مليار روبل سنوياً لكل جامعة مشاركة في المشروع استنادا إلى مدى تحقيقها خريطة الطريق التي وضعتها الجامعة للوصول إلى الهدف المنشود من المشروع وهو الوصول بخمس جامعات روسية على الأقل من بين المشاركين في المشروع إلى أفضل مئة جامعة في العالم وفقاً لأهم أنظمة تصنيف الجامعات العالمية، إذ رفع المشروع إنتاجية نظام التعليم العالي الروسي من البحوث العلمية وزاد الناتج العلمي الروسي المفهرس في قاعدة بيانات Scopus بأكثر من الضعف، وارتفع بالتالي تمثيل الجامعات الروسية في أنظمة تصنيف مؤسسات التعليم العالي العالمية بشكل ملحوظ.
إن استخدام الحوافز المالية لإنجاح مشاريع التعليم العالي ليس بالجديد على منظومة التعليم العالي في سورية. فعند بدء مرحلة التوسع الأفقي لجامعاتنا الوطنية منذ نحو خمسة عشر عاماً وافتتاح فروع لها في المحافظات، كان بعضها نواة جامعات مستقلة، كجامعة الفرات، وجامعة حماة، وجامعة طرطوس، أقرّ مجلس التعليم العالي اقتراحاً للجامعات بأن تصرف من مواردها الذاتية حوافز مالية مجزية لمدرّسيها لقاء قيامهم أيضاً بالتدريس في الفروع المحدثة. وقد كان لهذا أكبر الأثر في إنجاح العملية التدريسية في هذه الفروع. لكنّ تضاؤل القيمة المالية لهذه الحوافز من جهة، وتعقيد الصيغ الإدارية والمالية لصرفها بعد زيادتها من جهة أخرى، أديا إلى عزوف العديد من أعضاء هيئة التدريس عن التدريس في تلك الفروع، الأمر الذي نجمت عنه آثار سلبية كثيرة، منها أن بعض المقررات في فروع جامعة دمشق ظلت بلا مدرسين على الإطلاق!
الحاجة إذاً ماسة لمشروع وطني مركزي يحفز الجامعات على رفع مستوى أدائها بتحسين عمليات التعليم والتعلم فيها والخدمات التي تقدمها لطلابها، ويشجعها على تخريج كوادر موائمة لمتطلبات سوق العمل. ولا بد أن يشمل المشروع كذلك حوافز سخية للباحثين في الجامعات الذين ينشرون في المجلات العالمية ذات المستوى العملي الرفيع، علماً أن إنتاج الجامعات من البحوث العلمية هو أحد أهم معايير التصنيف التي تقوم عليها أنظمة التصنيف العالمية والتي تتحدد بموجيها منزلة الجامعة على المستوى العالمي. هناك أمثلة عدة على إهمال الجامعات لمحفِّزات الإبداع، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر عدم الالتفات عموماً إلا فيما ندر إلى تكريم الأساتذة والباحثين الذين يكرّمون من هيئات علمية وتصنيفية خارجية على إنتاجهم العلمي، وآخر مثال على ذلك تلقي إحدى الباحثات في جامعة دمشق التهنئة من مؤسسة عربية تعنى بتوثيق وأرشفة الإنتاج العلمي، لكونها «ضمن أعلى 5% مؤلف استشهد بمقالاتهم العلمية في المنطقة العربية من أصل ثلاثة عشر ألف مؤلف»،. وقد تناولت الصحافة الوطنية والمواقع الإلكترونية النبأ بإسهاب، غير أن الجامعة لم تبد أي اهتمام ولو كان معنوياً بهذا الإنجاز، وهذا يتناقض مع الجهود الحثيثة التي تقوم بها جامعات الدول الأخرى لتشجيع مدرسيها وباحثيها على التميز في الأداء.
وتبقى الحاجة ماسة إلى مراجعة الأداء وإلى إطلاق مشاريع وطنية مركزية مدروسة بتأنّ وعناية، تشارك في وضعها جميع الجهات المستفيدة من التعليم العالي ومن مخرجاته، وقد يكون ربط التمويل الحكومي للجامعات بالأداء أحد تلك المشاريع الواعدة، على أن يبنى ذلك على معايير واضحة ومتابعة حثيثة تأخذ بالحسبان جميع الظروف، إضافة إلى اعتماد أساليب تحفيزية أخرى تسهم في الارتقاء بالعملية التعليمية والبحثية تحسيناً لسمعة جامعاتنا وتأميناً لمستقبل أفضل لخرّيجينا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن