من دفتر الوطن

«أبو معن» في ذمة الله..

| وضاح عبدربه

عام ٢٠٠٦، وفِي غمرة انشغالي بتأسيس «الوطن»، غادر والدي ياسر عبد ربه عالمنا هذا، في الوقت الذي كنت أحتاج إليه كثيراً ولخبرته ومعرفته وتاريخه الطويل في علوم الصحافة وفنونها ودهاليزها، ولم يكتب اللـه له عمراً لقراءة عددها الأول، وفي الأمس توفي مَنْ قَبل ووافق أن أعتمده والداً لي، وعاملني ابناً له طوال هذه السنوات، وهو الراحل رزق اللـه هيكل «أبو معن» رحمه اللـه وقدس روحه الطاهرة.
حزني اليوم يكاد يشبه حزني عام ٢٠٠٦، فمن كليهما تعلمت الكثير، وكلاهما كان له فضل لا ينسى، قد لا تجوز المقارنة، لكنها واقعة، ولطالما آمنت بأن اللـه عز وجل عوضني عن فقدان والدي بـ«أبو معن»، فكان عطاؤه من المعرفة والنصيحة وشعور الأبوة لا ينضب، وأذكر جيداً كيف طلب من ابني الأصغر حمزة، أن يناديه بـ«جدو أبو معن» كاسراً كل الحواجز بينه وبين ذاك الطفل الصغير الذي لم يعِ جده الحقيقي.
كان يتشوق للقاء حمزة، وعندما يحين موعد الصيف ويأتي حمزة إلى دمشق، كان لابد لـ«أبو معن» أن يكون باستقباله لحظة وصوله، وذات صيف ضم حمزة إلى صدره وقال له: اليوم عليك أن ترتاح من عناء السفر، وغداً نذهب إلى متجر الألعاب لنتبضع.. فنظر إليه حمزة وأجاب وسط دهشتنا: «لا لن أذهب معك إلى ذاك المتجر، فالصيف الماضي أغرقتني بالهدايا، والآن الدور على والدي ولا أريد منك شيئاً». ضحكنا آنذاك، لكن في الواقع، كلام حمزة ذي السنوات الثماني كان كفيلاً بأن ينصف «أبو معن» ويصفه بالرجل الذي يعطي الآخر أكثر بكثير مما يجب.
لمن لا يعرف «أبو معن»، فهو ذاك الرجل البسيط المنحدر من مدينة قارة في القلمون، درس الهندسة في حلب وانتقل منها إلى دمشق حيث بدأ مشواره المملوء بقصص النجاح التي يطول شرحها.
كان رجل أعمال شرساً وعنيداً، مغامراً، يمتلك كل مقومات النجاح ويستثمر فيها من دون تردد، لدرجة أن كل من كان يعرفه في عالم الأعمال كان يخشاه، لأنه لم يكن رجل الحلول الوسط، بل كان رجل الموقف والكلمة، يعد ويفي، يتعهد فينفذ، واضحاً وصريحاً رافضاً أساليب المراوغة والنفاق والغش التي تحكم عالم الأعمال في بلداننا العربية، بل كان يكافحها.
أبو معن لم يكن فقط إنساناً بكل ما تعنيه الكلمة، بل كان قمة في الإنسانية وفي الأخلاق الرفيعة والنبل والكرم العربي الأصيل.
كان مثقفاً من الطراز النادر، قارئاً شغوفاً، وكانت جلساتي معه تطول وتطول وهو يحدثني عن سورية وتاريخها ورجالاتها وأدبائها وشعرائها وماضيها وحاضرها.
خلال مسيرته، نسج رزق اللـه هيكل شبكة واسعة من العلاقات داخل سورية وخارجها، كان صديق الفقراء والأغنياء والاقتصاديين والسياسيين والأدباء، وكل من قصده يوماً أدرك المعنى الحقيقي للعطاء من دون أي مقابل.
لم يبخل يوماً بنصيحة، ولا بمساعدة، كانت الكلمة الطيبة ترافقه أينما كان، ولا أذكر أني التقيت شخصاً لم يكن يحترم ويجل «أبو معن» لما كان يضمره من حب لكل الناس.
حفظ كل أبيات الشعر العربي، وكان يتسابق مع كبار المثقفين في تلاوة الشعر والحديث عن كبار الشعراء.. كان من أشد المعجبين بالمتنبي وصديقاً لنزار، وقارئاً لكتب التاريخ والأديان، وفيلسوفاً في فنون الحياة.
تعلمت منه الكثير، وكم كنت أتمنى أن أتعلم أكثر وأكثر.
طوال سنوات الحرب، رفض أبو معن مغادرة دمشق، بقي يجول يومياً من منزله في منطقة أبو رمانة إلى مكتبه في الشعلان، وعلى الرغم من قرب المسافة، إلا أن مشواره هذا كان يستغرق بعض الوقت، إذ كان يتوقف ليصافح الناس والأصدقاء وجيرانه وأيضاً عمال النظافة في المنطقة الذين كان يعرفهم فرداً فرداً.
فِي المساء وحين كان القصف على أشده يستهدف العاصمة، كان يخرج أبو معن ليحتسي القهوة في فندق الداماروز ويلتقي الموجودين من أصدقائه وأنا منهم، وكنت عادة أرافقه في طريق العودة إلى المنزل الذي يبعد عشرات الأمتار عن الفندق، لكنه كان يختار أطول الطرقات ليتمتع برائحة الياسمين ويتغزل بدمشق ونسيمها الرائع، ويروي لي قصصاً لم يكن يريد لأحد أن يسمعها غيري. وكل بضع خطوات كان يتوقف، يستنشق هواء ورائحة دمشق ويردد: كيف يمكن لعاقل أن يبتعد عن هذه المدينة الرائعة؟
كم من مرة سقطت بقربه قذائف الإرهاب وكأنها تقول له: غادر ما دام لديك الفرصة، لكنه لم يكن يكترث، لأنه كان مؤمناً أن لكل إنسان أجلاً، وأن الموت في دمشق هو شرف يستحقه كل من عاش فيها وشرب من مياهها.
كان يذهب مضطراً إلى لبنان، فيعود بعد ساعات ونادراً ما كان يمضي الليل، بالنسبة إليه كانت دمشق هي الراحة وهي الجمال وهي القدر الذي لا بد لنا جميعاً أن نعيشه لا أن نخشاه أو نهرب منه.
مع رحيل «أبو معن» خسرت الشام عاشقاً ملماً بكل تفاصيلها وشوارعها، وأديباً تغزل طوال سنوات عمره فيها وبسوريته، ومهندساً بارعاً كان ينتظر إشارة إعادة الإعمار ليكون أول المشاركين فيها.
شاء القدر، أن يغادرنا بعيداً من حبيبته دمشق، مستسلماً لملاك الموت بعد رحلة استمرت لأكثر من عام مع المرض في دمشق، وبعد عمل جراحي لم يكتب له النجاح في مدينة «آخن» في ألمانيا.. توفي وهو يوصي أولاده بأن يعودوا به إلى حبيبته سورية، وهذا ما سيكون له وما يستحقه هذا الرجل الاستثنائي في أعماله وأفعاله، وستبقى ذكراه خالدة ومؤبدة لكل من عرفه.
رحمك اللـه عمي «أبو معن»، وكل التعازي لإخواني معن وباسل وليلى ونهلى، وإلى الصديق الغالي صخر آلتون، الذين لم يفارقوه ساعة واحدة طوال حياته وفترة مرضه، وبذلوا كل ما بوسعهم ليكونوا بالقرب منه فيتعلموا منه المزيد ويبادلوه كل ذلك الحب الذي كان يخصهم به، فكانوا بالفعل خير ذرية لرجل لطالما قال لي: إنهم ليسوا أبنائي فقط، بل هم أعز أصدقائي.
والعزاء اليوم ليس فقط لعائلته، بل لكل من عرف «أبو معن» يوماً، وهم بكل تأكيد حزينون على رحيل رجل قل مثيله، ولكل منهم تجارب وقصص معه لا يمكن أن تنسى.
إلى اللقاء عمي «أبو معن»، ولا يسعني في ختام رحلتك مع الحياة إلا أن أتوجه إليك مجدداً بالشكر والامتنان لكل ما تعلمته منك، فكنت خير من ورث مكان والدي، وكنت مثالياً في تخفيف آثار الحرب علينا جميعاً، لما كنت تمتلكه من تفاؤل، وإيمان بسورية وقيادتها ومستقبلها، فكنت بحق مدرسة في الحياة.
وداعاً عمي «أبو معن»، وصلواتي لله بأن تجتمع مع والدي في الفردوس الأعلى وتطمئنه على حالنا وعلى سورية، وتحدثه عن أبطالها ورجالها وكيف يستبسلون في الدفاع عنها.. أخبره، كما كنت تخبرني، ونحن نجول شوارع الشام، أن سورية بخير، وأنه مهما اشتدت الظروف، فلا بد للحق أن ينتصر، وأن سوريتنا محصنة برجال أقسموا على إعادتها أجمل وأفضل مما كانت عليه. وأنا كلي إيمان، أنكما غادرتما هذه الأرض جسداً، لكنكما باقيان معنا روحاً، ترافقاننا بأعمالنا وأفعالنا، وكونا على ثقة أن ما زرعتما فينا من حب وخير وإنسانية، لا بد أن يستمر في غيابكما، وهذا عهدنا تجاهكما وتجاه ما ورثناه منكما من عشق لسورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن