ثقافة وفن

هنا لنا.. ملحمة السوري

إسماعيل مروة :

لنا.. هنا لنا.. المكان سورية، والصيغة جمعية لا فردية، الأطياف من كلها تغني: هنا لنا، والأطيار تردد العبارة، الكبار الذين تشبثوا بالأرض ولم يغادروا، والصغار الذين نبتوا من تراب الأرض، من عشب الأرض، من صراخ الأرض الممتزج بدماء الشهداء الزكية يهتفون بأعلى الصوت، يزقزقون كعصافير الجنان: هنا لنا..
الكبار حملوا تاريخهم الطويل، ووجدوا أن الوطن جدير ويستحق منا أن نعطيه المزيد من التشبث والدم والحياة، فشاؤوا أن يبقى نشيدهم الأزلي لوطن، رفضوا أن يكون الوطن أغنية يغنيها المشتاقون، ورفضوا أن يحملوا الوطن حقيبة سفر على ظهورهم والسير فيه في الآفاق الشاسعة، تاريخهم مسؤولية، أعمالهم شواهد، أغنياتهم ترانيم، أنغامهم ألواح عشق متجذر في التراب، قصائدهم قافيتها تراب وطن، رواياتهم بطولات المجهول من الجنود الذين استعذبوا الابتسامة الأخيرة على رصيف مدمى في الوطن، على أن تكون حياتهم في بيوت فارهة، وشوارع فسيحة..
هؤلاء الكبار تعالوا على الأزمة، كانوا أكبر من الحرب ومن الحراب، صمدوا أمام الرصاص والدمار والخراب، وبقي صوتهم عالياً.. وبعد خمس من السنوات المضمخة بالدم والبارود انتفضوا في وجه كل شيء ليقولوا أمام العالم أجمع: هنا لنا.. المكان سورية لا غير، والأرض سورية، والإنسان سوري، والمكان لنا كلنا، ليس لواحد منا، نهتف بأذان، نترنم بقرع ناقوس، نؤذن من كنيسة الزيتون، ونقرع الجرس من الأموي.. المكان بعبقه وبخوره لنا، لنا كلنا، بتعدد أطيافنا ومذاهبنا وعقائدنا. نصلّب للفادي في مساجدنا، ونؤذن على الميت وفي أذن المولود القادم في كنائسنا..
هنا.. لنا.. نبل المشاعر الكبيرة لأحلام صغيرة، لكنها تصبح بحجم الوطن عزة وإباء، هنا لنا انتفاضة روح ونغم في وجه القبح، صرخة في وجه الموت تقول له: توقف، فنحن نغني للحياة، نغني للشام، نمجّد سورية، نكتب أسماء الشهداء على أضرحة الروح بعد أن اكتظ الرخام بالراحلين، ولم يعد من متسع، نحن على أرواحنا نسجل أسماء من رحل وما يزال باقياً، نخطّ وصاياهم لوطن لا يعرف الانحناء، لأرض كلما أثخنت جراحاً انتفضت كالمارد لتغني ويرتفع الصوت: أنا سوري وآه يا نيالي.. لحناجر أدماها الألم، وشحذها الأمل بالغد لتبقى على المدى تنادي بصوت لا يصدأ ويبقى رنينه: بكتب اسمك يا بلادي عالشمس المابتغيب.. وتنحني الشمس احتراماً لإباء وكبرياء، ولدم الشهيد، لتسمح بالكتابة عليها بأحرف المجد: سورية الإنسان، سورية المجد..
هنا لنا أنشودة بقاء لسوري متجذر من بين الدمار والدم يقول كبير منشديها: لسا الأغاني ممكنة.. قد يغتالون البشر، قد يقطعون الشجر، قد يدمرون الحضارة والحجر، لكنهم لن يقدروا على الحناجر، لن يتمكنوا من التغلب على روح التحدي والبقاء لدى السوري الذي لم يستطع الموت أن يقهره أو أن يغير من قناعاته وأسلوبه في حياته..
دريد لحام، عباس النوري، سلمى المصري، ميادة بسيليس، حسام تحسين بك، ميسون أبو أسعد، ليندا بيطار، ميس حرب، شهد برمدا، وفيق حبيب، شادي أسود، همسة منيف والدينامو مصطفى الخاني، والقديرة نادين خوري، والبارع محمد حداقي والمميز فادي صبيح وبرلمانيون واقتصاديون أطلوا على المنبر، تحدثوا عن سورية، اعتصرهم الألم لما بها، انهمرت دموعهم، علت ضحكاتهم، وصل صداها الهازئ إلى الكون، وهم يغنون: خطة قدمكم عالأرض هدارة هدارة..
وبنور قمر مشفرة كان السوريون يهتفون للبقاء، يغنون للوطن، يتفانون في البحث عن جهد مدني مشترك، لتضميد جراح، وجبر كسر، والتخلص من إعاقة، وإعالة أسرة فقدت معيلها، من صنف آخر من الناس، من صنف قد لا يلتفت إليه الناس كثيراً في غمرة الحروب المشتعلة هنا وهناك.. لعمال الإطفاء كان العمل، لعمال النظافة كان الاحتفال، لعمال الخدمات اجتمعت أجيال سورية في دار الأوبرا لتغني نشيداً جميلاً معبراً (هنا لنا)..
المكان: سورية.
الزمان: الحرب.
الأبطال: السوريون البسطاء.
الكورس: المشاهير.
أطفؤوا حرائق الوطن، فطالهم الأذى، واكتفوا بالقصة ووسام الحب على صدورهم وفي نفوسهم، لم يسمحوا للقمامة أن تحيط بنا من كل جانب، فهنا عبوة ناسفة، وهناك طلقة طائشة، وقذيفة مجنونة.. لم يتوقف الأبطال السوريون البسطاء عن إطفاء أي حريق، وعن إنجاد أي أسرة، ولم يتوقف الأبطال السوريون البسطاء عن إظهار صورة المدن النظيفة كقلوبهم، وبقوا يدورون الشوارع بلباسهم الأزرق، تقترب منهم الكارثة الحرب، ولا يلتفتون إليها!!
إنها الحرب المجنونة، على أرض سورية الطاهرة التي لا تقبل عدواناً أو اعتداء، على أرض سورية الحرف والنوتة الموسيقية، على أرض سورية التي قد لا تكون الأكثر قوة لكنها الأكثر صلابة وصموداً، والأكثر خبرة في الحياة وأساليبها..
على أرض سورية المختلفة..
مشاهيرها وكبارها ركبوا الكبرياء ونزلوا ليكونوا كورساً للبسطاء
غنوا، وهم ليسوا محترفين.. أضحكوا وهم ينزفون.. جادوا وهم أحوج لما يجودون به
للسياسي دوره
وللعسكري خندقه
وللحكومة ما تشاء..
وهم نذروا أنفسهم للبسطاء من عمال نظافة وإطفاء..
هنا لنا قد لا تكون ظاهرة عبقرية
لكنها تظاهرة تعبر عن السوري وحياته
صورة بسيطة جسدها عروة العربي على عجل، فالوطن لا يحتمل، والزمن لا ينتظر..
ومن قاسيون إلى الحرمون
ومن الأقرع إلى الزاوية
ومن تدمر إلى البحر
نشيد سوري واحد..
هنا لنا.. هنا لنا..
لنتشارك الألم ولا نكترث لمن يحقق مصالحه وحدها في الداخل!
ولنتمسك بوطننا، ولن يفت بعضدنا متآمر بالخارج!
إنها أرضنا.. للبسطاء والتراب تبقى..
جميعهم راحلون
ونحن باقون
هنا لنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن