ثقافة وفن

كتاب دمشق.. حاء الحب.. راء الحرب … رؤية لما يجري في سورية يقدمها روائياً هزوان الوز..

إسماعيل مروة :

دمشق- الشام- شام مفردات الرواية الجديدة للروائي الدكتور هزوان الوز، وفيها لا يقارب بل يدخل في عمق الأزمة السورية، والحرب التي يشنها على سورية العالم الخارجي وأبناؤها في الوقت نفسه، ويقدم نصاً فيه من التقنيات الروائية ما يجعله مغامرة معرفية بالمكان والأسماء والأشخاص، إذ لا يكتفي بشخوصه، وإنما يخلق في العمل ثنائيات موفقة بين الشخصيات تجعل العمل باقة معرفة ومتعة في الوقت ذاته، ومن هنا كان العنوان «كتاب دمشق» موفقاً لأنه احتفاء بالمكان، وتأكيد حتمية بقاء المكان مع زوال الإنسان أو الناس، بالغياب أو التغييب! بالهرب أو التهجير، ليقدم رواية فيها من دم الحسرة أكثر ما فيها من دمع البكاء والشفقة، موزعاً دم الحسرة ومسؤوليته على كل طرف من أطراف الصراع.

الشام وشام
الشام المدينة، وشام الابنة ثنائية عزفت عليها الرواية من الصفحة التمهيدية قبل الرواية، وحتى آخر جملة فيها، وتصدمك المقدمة المقبوسة عن معجم البلدان، وأنت تدخل في ملكوت الرواية، ولكنك ما إن تستمر فيها حتى تكتشف العلاقة الحميمة التي تربط الكاتب الراوي والبطل الغائب بهذه المدينة العظيمة، حيث يختم روايته «أما الشام، دمشق، سورية، فلا بدّ، لابد أنها كانت تشارك شام الكتابة، ولذلك لا تحتاج لكي تقرأ».
ثنائية شام المدينة، وشام الابنة التي ألصق بها مهيار الاسم الأحب إلى ذاته، بل الاسم الذي يسكنه ويسكن جوارحه أتاحت له أن يغوص في المكان من دون أن يوسم هذا الغوص بالحشو والترهب، فاستلّ الروائي في أماكن عدة من روايته مقاطع عن الشام وعظمتها وأسواقها وتاريخها للتدليل على هول ما يجري على أرضها، وإعطاء القيمة الحقيقية لها، والتي تعطيها سمة البقاء والانتصار، والخروج مما يجري، ذلك في الوقت الذي غابت شام الابنة إلا من ذكر بسيط حتى شبّت في النهاية، وصارت تعي ما يجري وهي على أبواب الجامعة… وبين الشام وشام يظهر الروائي ليقول إن الرحمة المتمثلة في شام الابنة لا تنتهي، وتشبه شام المدينة والمكان، فهي تشفق على من هجرها وأساء إليها، وتسأل عنه من خلال سؤال شام عن أمها جمانة التي هجرت الثنائية (المكان، الابنة) وصارت غريبة عنها، لكنها تشفق عليها، وفي الوقت نفسه لا تسمح للسانها أن ينطق بلفظ الانتماء والأمومة… إنما تشفق عليها، ولكنها لا تشتاقها، مع أن الروائي فتح الباب موارباً لجمانة التي تبرأت مما يسمى «الثورة» ونالها ما نالها من اتهامات، إلا أن تاريخ جمانة الذي عبّر عنه الكاتب بلسان الراوية البطلة التي تختصر بثنائيتها رأي المدينة والابنة، إنها جيفة قسمت قسمين هي والمدير الفاسد!
فهي تصفح شام الابنة؟
وهل تخدع الشام المدينة؟
والجيفة العفنة هل هي يتغير جوهرها؟!

الحب صورة للحرب
تخلص الروائي من مأزق المباشرة بالتناول عن طريق اختيار نماذجه وأبطاله، فنحن في وسط صحفي متشابك العلاقات، وإشكالية الحب والشهوة والجسد تتجسد في أبرع حالاتها، فالبطل مهيار الذي لا يغيب عن صفحة من صفحات الرواية غير موجود أصلاً، وإنما يتم استدعاؤه بالتذكر من الرواية التي تحمل على عاتقها سرد الحكاية، واستحضار المحبوب النجم والشام وشام، من خلال قصاصات هي بين يديها تمارس فيها الحضور لغياب ملغز لم يفك رمزه إلا بإشارات في الخواتيم.
عهر جمانة ويعرفه مهيار، لكنه يتزوجها وينجب شام، مع ما يحمل ذلك من دلالة، والراوية أريج هي المحبة التي تمنحه الجسد والحب، تقدم فلسفتها في الحب، وتفسر التناقضات التي يقع فيها المحب الحقيقي، والخيبات التي يتعرض لها المحب، خاصة عندما يصل مرحلة اليقين أنه ليس محبوباً من الآخر، وأنه مجرد جسد، وها هي تعترف بعمق إحساسها بأنها لا ترى ذاتها إلا جسداً وعاهرة، وبأن كلامه الذي تحبه أصحبت لا تحبه لأنه يقال للكثيرات، وكانت شاهدة على مجانية حبه قبلاته وتعابيره، وهي تريد عبارة خاصة بها، لكن لا يقولها للأخريات، فالحب جعلها تعرف، تتألم، تقبل، لكنها تريد تميزاً وتفرداً في الكلمات الخاصة التي يتخمها بها، ولكن اليقين يزداد عندما لا تجد اهتماماً بها رسالة أو هاتفاً، أو هدية في عيد ميلادها إكراماً لجمانة التي يخشاها وعلاقته فيها ليست على ما يرام.
«للأسف حظي سيئ- وهو ما تسميه أنت مخابراتية! فمرة أسمعك تقول حبيبتي لفلانة ومرة أخرى ترسل قبلاتك ببذخ لأخرى.. ما أعلمه أن يميز حبي لك عن غيري أنه حقيقي صادق، لا هو ليأس، ولا هو مجرد اعتياد، ولا هو لمنفعة ولا هو عهر… فكم أتمنى ألا تحرقني.. ألا تقتل روحي.. ألا يكون أمانك وهماً، آمل أنك لن تجعلني أكره ذاتي وأحتقرها لأني قررت أن أحبك وأحبك، كما لو أنه أمر سماوي لا أستطيع عصيانه».
الحب صورة للحرب والانتماء، وكأن المؤلف يريد أن يجعل رواية الرواية صورة عن سورية التي تعبر عن حبها لمن هم لها، وتقوم بتشريح مواقفهم منها في كل فاصلة من الفواصل!

يوميات الحرب وتوثيقها
عكف الروائي الوز على تسجيل دقيق لبعض العلامات في الحراك السوري من بداياته وإلى اليوم الذي انتهت فيه أحداث الرواية، فسجل بيان درعا الذي سمي يومها «بيان الحليب»، وعلى لسان البطلة أدان من أدان، ووقف عند القضية الإنسانية التي حملها بيان الحليب، ووزع الأدوار بين جميع الجهات التي تؤيد البيان أو تدينه، وسجل بتسلل جمانة الزوجة التي لاتؤدي دورها تجاه شامها وابنتها شام تظاهرة المثقفين عند جامع الحسن، والتي كانت علامة فارقة في ذلك الوقت، واعتمد كذلك على رواية الحدث من وجهة نظر الرواية التي اختلط عندها الكره لجمانة وحبها لمهيار في إعطاء أحكامها على كل من خرج من المثقفين، والفنانين كذلك، وساقت مفارقة نكران جمانة لمشاركتها في التظاهرة عندما تحدثت، وفي الوقت نفسه المفاخرة بالمشاركة عندما تحدثت إلى وسائل إعلام خارجية، ومما لا ريب فيه أن الروائي أجاد في جعل هذا التوثيق في مكانه وغير مقحم بين صفحات الرواية، ولكن انطلاق الرواية من وجهة نظر الحب والكره والإدانة جعل ما تقوله وجهة نظر الراوي، وليس وجهة نظرها هي وحدها، وربما كان للمكانة التي يتمتع بها الروائي الأثر في سرد الحكاية على لسان البطلة المعطاء دوماً، وصاحبة فلسفة الحب الخاصة!
وكذلك عرّج الروائي على ما حدث في مناطق عدة من سورية، وخصّ حلب باهتمامه، وحاول التفصيل في حياة وأسماء الجماعات المسلحة، ليجد حديثاً عن ظاهرة الاختطاف وظاهرة الافتداء التي شاعت معتمداً على كون الرواية على لسان البطلة التي استمرّ غياب محبوبها مهيار تسعة أشهر، وهي تتابع مع ابنته شام معرفة مصيره، فهو غير موجود لدى الأجهزة الأمنية كما أخبرهم أحد المتنفذين، لذلك لابد من متابعة الجهة الأخرى التي من الممكن أن تكون قد قامت بعملية الاختطاف لمهيار وهو يشتري حاجياته وتبقى سيارته علامة..!
ولم تنس الرواية بقلم راويها أن تضيف شيئاً من التشويق لما رأته من تذبذب رأي مهيار تجاه ما يجري في سورية بين أن يعدّ الأمر ثورة في أوراق غير منشورة، وبين موقف معلن، من دون أن ينسى الراوي مواقف مهيار في نقد المسؤولين والفاسدين، وتؤدي الراوية دور الناصح لمهيار بأن يخفف.. مهيار الرمز لم يعد موجوداً، لكن الإدانة التي أرادتها الراوية المحبة تشير إلى تضامنه مع جمانة عندما هاجمها خصومها لأنها عادت عن تأييدها لما يسمى الثورة! فهل كان مهيار مثالاً أكثر خبثاً من جمانة؟!

بين حب ووطن
على الرغم من كل سياق الحب والعاطفة الذي ساقه الراوي، لكن البطل مهيار لم يكن مستحقاً لذلك النبل في الحب، وهو المتنقل الناكر للحب الحقيقي الذي يأتي من الراوية، وربما يمثل هذا مع قراءة الراوية لقصاصاته ومواقفه حكماً على أن الذي لم يخلص في حبه ولم يكن صادقاً، لم يكن كذلك مع وطنه، لذلك بقيت الأرومة الجد والجدة، وبقيت شام المستقبل والراوية بعد أن شاع خبر الضربة الأميركية المتوقعة.
رواية للشام وتاريخها وحاضرها وإنسانها، وللذين اختاروا الشام مكان إقامة، ولم تكن لديهم عند ذاك الذي تستحقه من التقدير والحب، فاختلطت لديهم المشاعر والأفعال، وتبقى شام من ياقوت الحموي إلى شام مهيار، وستنجب شام من يستحق أن يحيا في هذه المدينة الخالدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن