ثقافة وفن

حارس التراث إبداعاً .. الغيطاني يترجل

ورحل جمال الغيطاني، الروائي المسكون بالرواية، الابن الشرعي للتراث العربي واستلهامه، وهل مثل الغيطاني، لازم نجيب محفوظ، قرأ الكبار وعرفهم، ولكنه أراد أن يكون هو، جمال الغيطاني الذي لا يترسم خطوات أحد من الكتاب، رحل بتجلياته، رحل إلى جوار ابن إياس، كلاهما كتب مصر، وعرف المماليك، وشخص الأمراض المستعصية، كلاهما عرف أن المماليك الذين نهضوا إلى الواجهة غير قادرين على أن يكونوا سادة مصر..

الغيطاني المثال للاستقلالية، وإلى الانحياز، رحل بعد أن قرأ ما حدث في مصر، كان مشاركاً وفاعلاً، فمن الرواية إلى المقالة والنقد، وإلى المشاركة في الحياة الأدبية والثقافية الفاعلة، لم يتخلف يوماً عن المشاركة والفعل، ولكنه بقي بعيداً عن الواجهة السياسية التي انتقدها كثيراً، ولن أنسى رأيه عندما أثيرت الضجة حول رواية حيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر).. مبدع مع حرية الإبداع، وحرية التلقي.. لم يؤمن بالحدود يوماً، فمن أعماله أعمال طبعت في وزارة الثقافة السورية في طبعتها الأولى بعد حرب تشرين التحريرية، ومن أعماله ما تم تحويله إلى أعمال درامية تركت أثراً، وقد يكون الغيطاني من أوائل الكتاب الذين استلهموا التراث وتعاملوا معه، فأبدعوا وأخرجوا تراثهم بأرواحهم، كان الغيطاني مؤمناً باستمرارية التاريخ، فهو لا يعيش منعزلاً عن الماضي القريب والبعيد، لذلك قرأه قراءة ناقدة مبدعة، وقدمه كما يرى، فلم يعش التراث، ولم يشكل له حالة مرضية، بقدر ما كان يقرأ التراث لا للإسقاط، بل لتحديد الأمراض التي نعاني منها، ووضع اليد على الأخطار المحدقة بنا ومعالجتها.
لم يمنعه أنه روائي من تبجيل الروائيين السابقين، ولعل نشاطه عندما تعرض نجيب محفوظ لعملية اغتيال غير ناجحة تركت أثرها فيه، خير مثال على وفاء الغيطاني للإبداع، فكما استبشر بفوز نجيب محفوظ بنوبل، هبّ لمكافحة الظلامية التي حاولت النيل من حياة شيخ الرواية العربية محفوظ بعملية اغتيال للذاكرة والإبداع..
الغيطاني صاحب التاريخ الكبير، والمبدع الحقيقي كان غاية في التواضع والحديث إلى الآخر الذي يرغب في الحوار معه حتى وإن لم يعرفه، قد يكون الغيطاني من القلة الذين خاضوا تجربتهم الإبداعية بتصالح مطلق، فهو محب لأدبه ومعجب به، ولا يحيد عنه، وهو الذي يحترم الرأي النقدي، فلا يخوض معارك نقدية ليست ذات جدوى حول أعماله، يترك للنقاد أن يتناولوا إبداعه من أي زاوية شاؤوا، وقد عبر في لقاء يتيم جمعني به قبل عقد عن احترامه لأي قراءة تتناول أعماله ورواياته، فلم يعترض على من رأى أن استلهام التراث يمثل عملية هروب من الواقع وتناوله، ولم يحاول أن يصوّب، ولم يعترض على من رأى فيها إسقاطاً على الواقع، ولم يحتف بمن رأى- وهو الأقرب- أن تعامله مع التراث هو عملية قراءة وصياغة..
آمن الغيطاني أن كتب التاريخ الصادقة والحقيقية هي الأدب والرواية، وليست كتب التاريخ التي تكتب وفق الأغرض والأهواء، لذلك أشاد «بحوادث دمشق اليومية» لأنها صورة طازجة لما كان يحدث في دمشق زمن البديري الحلاق.. ومن إيمانه هذا عمل الغيطاني على صياغة التاريخ أدباً وموقفاً، واحتفى بالتراث مع أنه لم يكتف بالتراث في أدبه، بل أعماله متعددة الأساليب، لكن القارئ والناقد أهملا كل شيء لمصلحة عنايته بالتراث.
وللغيطاني إسهامات كبرى في خلق الإبداع على المستوى المصري والعربي، فقد شارك في جوائز وملتقيات وتحكيم الكثير من اللجان التي جعلته ينتخب الأفضل من المواهب ومن الأقلام، وهو بذلك يمثل نموذج المبدع الذي يحترم أي صوت إبداعي إن كان سابقاً أو لصيقاً أو لاحقاً.. وإن أراد أن يقول رأياً يكتبه أو يتحدث به على ملأ، ولم يكن ليتحدث سلباً عن أي تجربة لكاتب آخر.
رحل الغيطاني الذي أثبت في ميدان الرواية رسوخه، ولم يسع بعد رحيل نجيب محفوظ لأخذ مكانه، لإيمانه بأن كل مبدع له خصوصية، ولن يتمكن أحد أن يأخذ مكان أحد.
ها هو جمال الغيطاني بأعوامه وأعماله وتراثه الغني يغادر تاركاً الساحة فارغة بعده، خاصة ممن يجيد قراءة التراث بعد أن ابتدع خطاً قلده الكثيرون، ولكن لم يصل أحد إلى درجته في فهم آلية التعاطي مع هذا الإرث العظيم بما فيه من إيجاب وسلب.

جمال أحمد الغيطاني 

جمال أحمد الغيطاني (9 أيار 1945 – 18 تشرين الأول 2015) هو روائي وصحفي مصري ورئيس تحرير صحيفة أخبار الأدب المصرية. صاحب مشروع روائي فريد استلهم فيه التراث المصري ليخلق عالمًا روائيًا عجيبًا يعد اليوم من أكثر التجارب الروائية نضجًا وقد لعب تأثره بصديقه وأستاذه الكاتب نجيب محفوظ دورا أساسيًا لبلوغه هذه المرحلة مع اطلاعه الموسوعي على الأدب القديم وساهم في إحياء الكثير من النصوص العربية المنسية وإعادة اكتشاف الأدب العربي القديم بنظرة معاصرة جادة.
في عام 1969، مرة أخرى استبدل الغيطاني عمله ليصبح مراسلا حربيا في جبهات القتال وذلك لحساب مؤسسة أخبار اليوم. وفي عام 1974 انتقل للعمل في قسم التحقيقات الصحفية، وبعد إحدى عشر عاما في 1985 تمت ترقيته ليصبح رئيسا للقسم الأدبي بأخبار اليوم. قام الغيطاني بتأسيس جريدة أخبار الأدب في عام 1993، حيث شغل منصب رئيس التحرير.
حصل الغيطاني على الجوائز التالية
جائزة الدولة التشجيعية للرواية عام 1980.
جائزة سلطان بن علي العويس، عام 1997.
وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.
وسام الاستحقاق الفرنسي من طبقة فارس عام 1987.
جائزة لورباتليون لأفضل عمل أدبي مترجم إلى الفرنسية عن روايته التجليات مشاركة مع المترجم خالد عثمان في 19 نوفمبر 2005.
جائزة الدولة التقديرية (مصر) عام 2007.

• من اعماله:
• أوراق شاب عاش منذ ألف عام – التجليات – خلسات الكرى – الزيني بركات – رسالة في الصبابة والوجد – وقائع حارة الطبلاوي – خطط الغيطاني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن