قضايا وآراء

حسابات تركية وأخرى كردية

عبد المنعم علي عيسى :

كان التعاطي التركي مع تنظيم الدولة الإسلامية أكثر من ملموس حتى بالنسبة للشارع التركي الذي استطاع أن يقارب المدى الذي وصل إليه ذلك التعاطي بدءاً من محطاته الفارقة كحادثة الإفراج عن الدبلوماسيين الأتراك الذي احتجزتهم داعش في الموصل (الإفراج كان في 20/9/2014) والذي مثل آنذاك فضيحة دبلوماسية كما وصفها فاروق لونج أوغلو السفير التركي في الأمم المتحدة ليضيف «لقد تحولت تركيا إلى دمية بيد داعش» تلا ذلك الحدث حالة التبرم التركية على خلفية قصف الطائرات الأميركية (25/9/2014) لمصافٍ بترولية بدائية على الأراضي السورية التي كان يديرها أتراك ويذهب ريعها إلى أتراك، والتي كانت أشبه بحالة احتجاز لبضائع تركية بهدف «جمركتها» كيلا تعتبر في العرف الأميركي بضاعة مهربة سعت أنقرة منذ منتصف العام 2012 نحو إقامة منطقة عازلة (أو آمنة) على الأراضي السورية ليكتسب ذلك المسعى بدءاً من العام 2015 طابعاً محموماً في ظل قراءة تركية ترى أن تحقيق هذا الأخير قد بات أقرب من أي يوم مضى، ليتبين سوء تلك القراءة عندما أعلنت جبهة النصرة – التي كان من المفترض أن تكون أداتها على الأرض- أن قيام المنطقة الآمنة غير شرعي ولا يحظى بموافقتها، ليذهب فيما بعد عبد الله الشامي عضو الهيئة الشرعية في جبهة النصرة (آب 2015) إلى مهاجمة السياسات التركية بشكل غير مسبوق مضيفاً: «إن تركيا اليوم مستفيدة من داعش ولا يمكن لها أن تفكر جدياً في محاربتها».
منذ منتصف العام 2012 كان أردوغان يتلقى الصدمة تلو الصدمة ويقفز من فشل إلى فشل حيث سيدفع تراكم هذا الأخير نحو مسار سياسي سيكون كافياً لغياب صورة القائد المتماسك ذي الأعصاب الباردة القادر على مواجهة المستجدات أياً كان نوعها أو حجمها، ظهر ذلك مرات عديدة إلا أن أكثرها وضوحاً كان في ظهوراته المتتالية بعد ما تأكد له تراجع واشنطن عن توجيه ضربة عسكرية لدمشق في أعقاب اتهامها باستخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية 21/8/2013.
كانت سياسة النعام التي يعتمدها أردوغان في مواجهة الفشل قد تركت انطباعاً لدى الأميركان بأن هذا الأخير ليس أكثر من مهرج أو مقامر وهو أبعد من أن يكون لاعباً استراتيجياً يمكن الاعتماد عليه في المنطقة.
بالتزامن مع تلك النظرة كانت واشنطن تنظر أيضاً إلى حزب العدالة والتنمية على أنه أعجز من أن يمتلك القدرات اللازمة لتزعم المجتمع التركي والسير به نحو تحولات جذرية قادرة على إخراجه من ثقافة الهاوية التي سعى أردوغان لتجذيرها بعمق في المجتمع التركي، وهو ما أكدته نتائج الانتخابات في 7/6/2015 التي لم تمكن أردوغان من التفرد بالسلطة تمهيداً لوضع أحلامه موضع التطبيق.
في سياق هذا المسار الأخير ازدادت العلاقة التركية تعقيداً مع الأكراد بعدما اتضحت الحدود التي يطمح أردوغان في دفع الأكراد إليها فقد أثبتت معركة كوباني (أيلول وتشرين الأول 2014) أنه يسعى لأن تتمكن داعش من سحق القوات الكردية المدافعة عن المدينة، وإن لم يكن فالذهاب نحو تحين الفرص التي تتيح له توجيه ضربات سياسية موجعة للأكراد الأمر الذي تيسر لهذا الأخير في أعقاب تفاهمه مع الرياض (آذار 2015) والذي خلق مناخاً مريحاً مكنه من إدارة ظهره للمفاوضات مع الأكراد تلك التي انطلقت ربيع العام 2013 من دون أن تحقق شيئاً يذكر قبل أن تنعاها ضربات الطيران التركي على مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وفي الجنوب الشرقي من تركيا بدءاً من أواخر تموز 2015.
منذ أن بدأت الحرب على سورية ذهبت واشنطن نحو إقامة تحالف صلب مع الأكراد ظهر ذلك جلياً عندما اقتربت فصائل داعش آب 2014 من حدود أربيل ما استدعى تدخلاً كثيفاً للطائرات الأميركية لردع ذلك التقدم وهو ما نجحت به في وقت قصير نسبياً على عكس ما كانت تأتي به التقارير على جميع الجبهات الأخرى.
قرأ الأكراد الموقف الأمريكي على أنه نهائي ما يعني بحسب القراءة الكردية أن واشنطن سوف تذهب حتى النهاية في دعم المواقف الكردية تحت أي ظرف كان.
شكل الاتفاق الأمريكي التركي 23/7/2015 صدمة قاسية للأكراد الذين تأكدت لهم سريعاً مقايضة أنجرليك بضوء أخضر أميركي لأردوغان يتيح له قصف مواقع حزب العمال الكردستاني (آب 2015) ولأجل غير محدد، فجأة وجد الأكراد أنفسهم أمام وضع شبيه بذلك الذي كانوا عليه مطلع العام 1946 عندما استطاع الغرب مقايضة بولندا بدولة مهاباد التي كانت تقوم على الأراضي الإيرانية وفي ظل حماية الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين الذي ذهب باتجاه الإغراء البولندي تاركاً مهاباد أمام خيار وحيد هو سقوطها، الأمر الذي حدث نهايات العام 1946، اليوم يجب أن تقرأ -بالنسبة للأكراد- حادثة الدعم الأميركي للقوات الكردية التي قامت فيها الطائرات الأميركية برمي أسلحة وذخائر لهذه الأخيرة على الرغم من التحذيرات التركية المتكررة، على أنها نكاية بأنقرة أكثر مما هي دعم لهم فطبيعة تلك الأسلحة تقول ذلك هذا إضافة إلى أن واشنطن لم تنفك ترسل للجيش التركي صور الأقمار الصناعية التي تحدد بدقة مواقع حزب العمال الكردستاني من دون توقف ما بعد انتخابات7/6/2015 التي جاءت بما لا تشتهيه سفن أردوغان، كان من الواضح أن هذا الأخير سوف يذهب نحو إعاقة تشكيل حكومة ائتلافية أملاً في الذهاب نحو إجراء انتخابات مبكرة وهو ما استطاع الحصول عليه مطلع أيلول الماضي عندما أعلنت الهيئة التركية العليا للانتخابات عن أن موعد إجراء الانتخابات القادمة هو الأول من تشرين الثاني لعام 2015.
ما بين أيلول وتشرين الثاني كانت رهانات أردوغان تقوم على إمكان وضع الناخب التركي أمام خيارين اثنين: إما حزب العدالة والتنمية وإما فقدان الأمن والاستقرار، جاء التدخل الروسي في سورية (1/10/2015) ليشكل لحظة تحول مفصلية في علاقة أنقرة مع الأزمة السورية، كان ذلك التدخل أشبه بقرار روسي يعلن طي السياسات الأردوغانية المستثمرة في الدم لتحقيق مكاسب حزبية أو سلطوية حتى بات من الممكن القول إنها (أي الضربات الروسية) قد قلبت الحسابات التركية رأساً على عقب وفي الوقت الضائع الذي لا يمكن من إعادة ترتيب الأوراق والانطلاق من جديد.
في ظل مسار الأحداث الحاصل حالياً، وفي ظل نجاح أردوغان (المرجح) في وضع أكوام الشوك في الطرق الكردية على شاكلة قرار الحكومة التركية بإلغاء العشرات من المراكز الانتخابية في مناطق الريف الواقعة في الجنوب الشرقي من تركيا والتي تمثل المعقل الأكبر لحزب الشعوب الديمقراطي، بحجة عدم قدرتها (الحكومة التركية) على ضبط الأمن في تلك المناطق وهو أمر من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على قدرة ذلك الحزب في تحقيق نتائج إيجابية وأقلها المحافظة على نتائجه السابقة (13.2%) على حين أن من المتوقع أن يتراجع ثقله وربما لأن ينحدر دون مستوى الـ10% الذي يتيح له الاحتفاظ بتمثيل برلماني، وهو أمر من شأنه –لو حدث- أن يؤدي إلى ارتفاع التمثيل البرلماني لحزب العدالة والتنمية ولحزب الشعب الجمهوري على حد سواء دون أن يصل ذلك الارتفاع بأحدهما إلى الوصول فوق عتبة الـ/325/ مقعداً التي تضمن لمن يصلها الانفراد بتشكيل الحكومة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن