ثقافة وفن

الرواية الحقيقية لسيد الكرملين فكرة مبتكرة للصعود غير المألوف … بوتين ملك السلام ورواية حب لروسيا

اعداد: مها محفوض محمد :

لا تنفك وسائل الإعلام الغربية عن مهاجمته وشيطنته غيظاً منه، فهو الرجل القوي الذي استعاد مجد روسيا وصنع منها دولة عظمى بالأرقام.
الرئيس فلاديمير بوتين ملأ الدنيا وشغل الغرب، بل أقلقه وتحداه وأفشل خططه في تخريب بلاده ثم استخف به أخيراً حين قرر التدخل العسكري في سورية دون إبلاغه لمحاربة الإرهاب فأذهل الغرب وجعله بلا صوت.
البطل الحقيقي بوتين هو أيضاً بطل رواية شغلت الإعلام الفرنسي منذ شهر تقريباً حيث صدرت عن دار فلاماريون بعنوان «فلاديمير فلاديميروفيتش» للكاتب الفرنسي برنار شامباز وهو روائي مؤرخ وشاعر حائز جائزة غونغور عام 1993، الرواية نوع من السيرة الذاتية بطلها يحمل اسم الرئيس فلاديميروفيتش بوتين، يقوم بدور الراوي حيث يروي حياة الرجل القوي في روسيا، أي إن الكاتب يجعل القارئ يرى الرئيس ويفهمه عن طريق رجل آخر من عامة الشعب ولد أيضاً في العام 1952 وعمل أستاذ آداب وتقاعد حديثاً ثم بدأ كتابة سيرة الشخص الجذاب الذكي الذي يحمل اسمه فيستطيع القارئ الاندماج معه بسهولة ونلحظ عبر الرواية أن الكاتب مفتون بالثقافة والتاريخ الروسيين فهو يقدم بورتريهاً لروسيا معاصرة مسكونة بماضيها هذا ويقدم الراوي حياة صنوه في ثلاثة كراسات أحمر ورمادي وأسود.

الكراس الأحمر يبدأ مع اسم فلاديمير الذي يعني بالروسية «ملك السلام» وفلاديميروفيتش بوتين ولد ببركة القديس فلاديمير الأول الأمير الكبير لكييف في العام 1000، وله اسم فلاديمير اوليانوف لينين، فهل هو أمير السلام الذي لا يطيق الغرب أن يراه؟ هذا واحد من أسئلة عديدة تتضمنها الرواية ثم يبدأ بسرد طفولة بوتين ومرحلة المراهقة عند هذا اليافع المتمرد على القواعد الذي تفتح في لعبة السامبو (هي إحدى رياضات الدفاع عن النفس في روسيا) والجيدو الروسي الذي كثيراً ما أغوى الفتى المشاكس ولم يتعقل إلا في الثانوية ومتابعته التدريبات الرياضية على أعلى مستوى ثم تعلمه اللغة الألمانية التي ستفيده فيما بعد ليصل إلى هدفه ويلتحق بعدها بجهاز الأمن السوفييتي KGB.
وفي الكراس الرمادي: يتحدث عن خمس سنوات قضاها في العمل الاستخباراتي في ألمانيا وفيها تجميع لخبراته أثناء عمله وهنا تبرز أهمية الشخصية التي تتمتع بالنباهة والعبقرية في القدرة على التكيف والجمع بين المتناقضات حيث يشهد سقوط جدار برلين مع ملايين غيره وبعدها بفترة وجيزة يعود إلى الاتحاد السوفييتي رغم أن أحداً لم يكن يتصور أنه خلال عامين لن يبقى هناك اتحاد سوفييتي وفي هذه الأثناء يتغير نمط تفكيره فكل شيء يمر بسرعة ويرى أنه لابد من المضي مع حركة التاريخ منتظراً اللحظة المناسبة للتحرك، ومن الـKGB إلى بلدية سان بطرسبورغ كان صعوده لامعاً بشكل غير منتظر، فرجل الظل بمظهره الجدي العابس دوماً تميز بالرصانة والتحفظ في عمله ليبدأ في الظهور إلى العلن مع التفجيرات التي نفذها إرهابيون في القوقاز حين رد بقوة وحنكة في خطابه يوم أعلن أنه سيلاحق الإرهابيين ويقتلهم في آخر معاقلهم (في المراحيض) وهنا ترد في الرواية عبارة: «علينا الانتباه، يجب ألا نوقظ الدب حين يكون نائماً».
في الكراس الأسود: فكرة مبتكرة للكاتب تقوم على وصف الصعود الخارج عن المألوف والوصول إلى السلطة العليا «بوتين رئيساً» ومعه روسيا على موعد للعودة إلى ميدان العمل وهو يحذر من المناورات الاستراتيجية للناتو وللاتحاد الأوروبي المتضمن بلاد البلطيق حيث توجد القواعد العسكرية الروسية فلديه انطباع بأنه سيكون عرضة لاحتيال الدبلوماسية الأطلسية والمستشارين العسكريين الأميركيين المتوافدين إلى جورجيا، فمن الأزمة الأوكرانية إلى لقاء النورماندي للاحتفاء بالذكرى السبعين لإنزال القوات ومن قضية سنودن الذي وقف له بدور الحامي إلى سوتشي حيث جسد بوتين صورة برومثيوس (إله النار الذي يرمز إلى الحضارة البشرية الأولى) المحب للعمل وهو يرفع الشعلة الأولمبية التي كانت بمنزلة تحدٍ معلن للعالم.
بهذه الصورة وبوصف دقيق يقدم الراوي شخصية الرئيس التي يلفها الغموض والدهاء. كما أراد وصف روسيا الأزلية وتاريخها المتجسد في الحياة اليومية من المخزن الكبير «غوم» المضاء بجانب ضريح لينين وصولاً إلى المتحف المجاور لبحيرة بايكال الذي يؤوي حيوانات محنطة من بينها طير يدعى غوغول فكل شيء يستحضر غرساً من الماضي يستمر في الحاضر الروسي. وفي إشارة إلى مثابرة الرئيس على معتقده الديني وهو الأرثوذكسي الملتزم يريد أن يرد الاعتبار بقوة وعزم إلى روسيا التي عرفت بالتقليد الأرثوذكسي ووسمت بسبعين عاماً من الشيوعية يحط الراوي في باريس ويذهب إلى الكنيسة الأرثوذكسية (سان سيرج رادوينج) ويعجب بهذه التحفة من الخشب المعتق المخفية في شارع القرم وقد لا ينتبه إليها العابر في هذا الطريق فيستجمع حواسه ويتأمل في صحن الكنيسة مع أنه لا يتقن الصلاة ثم يذهب إلى ساحة لا بورس حيث عاش غوغول ثم يسلك شارع سيباستوبول وأماكن زخرت بصداقات روسية فرنسية تبدو اليوم لا علاقة لها بالماضي ذلك لأنه يلحظ فجأة على غلاف إحدى المجلات في كشك لبيع الصحف صورة للرئيس بوتين على شكل غول كتب بجانبها «ذئب شرير سيأكلنا أحياء».
يحاول الراوي فلاديمير فلاديميروفيتش عبثاً في المكان ليجد أن الرئيس بوتين لا يطاق هنا فيندهش وتنتهي الرواية في موسكو حيث إن معجبيه هناك يرونه بطلاً قديماً جسدوا أعماله في اثني عشر عملاً لهرقل وفيها تحد للغرب وهكذا يبلغ المد البوتيني أقصاه فنرى صوره مطبوعة على الثياب والفناجين والقبعات.
وفي لقاء للكاتب مع صحيفة لومانيتيه الفرنسية وسؤاله إن كانت الرواية أشبه برواية روسية يقول شامباز:
نستطيع اعتبارها رواية حب لأرض روسيا وسمائها أيضاً لتاريخها كما هو اهتمامي وتفكيري في الإرث الأدبي والسينمائي الرائع لهذا البلد الذي لم يتوقف عن إلهامي، فروسيا هي البلد الحميم الأقرب إلى قلبي. وإذا كان الملهم السري في الرواية هو الأديب نيكولاي غوغول؟ يقول شامباز: غوغول حاضر بطريقة مقصودة مع أن محبتي لتشيخوف أكبر لكني تمسكت بـ غوغول في رائعته:
«النفوس الميتة» التي يعتمد عليها البطل في تحضير أطروحته حين كان أستاذاً لأن الرئيس بوتين يحب غوغول وقد حضر هذا الكاتب الكبير بين سطور الرواية وفي ذلك دلالة على بعد خاص وجاذبية في الغرابة التي أردت بها تخصيص أسلوبي.
إن النظرة الحزينة التي لمحتها في عيني الرئيس بوتين كعيني طفل يوم استبعد فريق هوكي الروسي من الربع النهائي في ألعاب سوتشي دفعتني إلى الكتابة مع أمور أخرى ترتبط ببعضها، فهناك أيضاً أحداث الميدان في أوكرانيا حيث الحرب المقنعة وكل هذا الاضطراب في الوضع الدولي، أوليس الرئيس بوتين هو الشخصية الأساسية البارزة في هذه اللعبة السياسية العالمية؟
كثيرون هنا في الغرب يتحدثون عنه بشكل سلبي، أقول لا أريد أن أسمع هؤلاء يتحدثون فهم نماذج قذرة.
بالنسبة لي هذا الرجل ليس فقط يجذبني بل أنا مفتون به، لقد ألزمت نفسي بتأليف رواية واقعية حول شخصية تاريخية يستهوينا كشف أسرارها ولو بقي هناك لغز فالرئيس بوتين صعب القراءة والبطل فلاديميروفيتش في عمره وانكشاف بصيرته (بحسب تعبير بودلير) يعبر عن طموحه وصلابته، فعلى كتفيه يقع عبء التاريخ وثقله والنقطة المشتركة بين الرئيس بوتين وبطلي الذي يحمل اسمه هي أنا وملايين الأشخاص الذين نواجه ما سمي «سقوط الشيوعية» وما خلفته من آثار بعد نهاية الثمانينيات يراها الغرب تطوراً تاريخياً مسلماً به لكنها لم تكن مطلقاً كذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن