قضايا وآراء

«العرب» في مرحلة الإخفاق السياسي!

القاهرة – فارس رياض الجيرودي :

يعرف المفكر الألماني الشهير كارل شميت المجال السياسي بأنه المجال الذي يفرض على المشتغل فيه تحديد العدو من الصديق، فلا مكان في هذا المجال لأنصاف الحلول التي لا يمكن أن يقبلها العدو أصلاً لأن هذا الأخير هو من يفرض إيقاعه وفقاً لنظرته للعالم بشعوبه ودوله، وفي هذا الإطار جاء الخطاب الأخير لأمين عام حزب اللـه والذي حدد فيه لجماهير الحزب ولجمهور الأمة المؤيدة لحلف المقاومة مقاربةً سياسية واقتصادية وأمنية مبسطة، لكنها واقعية وحاسمة في تحديد العدو، كما أنها مقاربة تفتح الباب للأصدقاء المحتملين للقوى الحية في الأمة في المواجهة المصيرية التي تخوضها اليوم.
لقد تعرض الوعي السياسي الجمعي لشعوبنا خلال العقود الأخيرة لعملية تشويش وتشويه ممنهجة، الهدف منها حرف البوصلة عن العدو الحقيقي الذي لم يتوقف طوال قرني الاستعمار الغربي الأخيرين عن ممارسة عمليات التقسيم والتدمير وعن إعادة هندسة الواقع السياسي لمنطقتنا حسب مصالحه وبما يسهل استمرار نهب ثروات أمتنا، وهي ممارسات لا تعد استثناءً عن ممارساته في طول العالم وعرضه، حيث ينظر الغرب الكولونيالي للكون باعتباره مادة استعمالية في يده، من حقه التدخل فيها وإعادة ترتيب شؤونها بما يناسب مصالحه، ودون أدنى اعتبار لمصالح شعوب هذا العالم أو أمنها، لذلك لم تتورع الدول الاستعمارية الغربية عن دعم مشاريع الاستعمار الاستيطاني التي كان أكبرها في عالمنا العربي تجربة الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وكان آخرها تجربة دعم قيام كياني الإرهاب داعش والنصرة، واللذين كانا التتويج لعملية محاولة إعادة رسم الحدود السياسة لبلداننا بهدف التخلص من أعداء السياسات الغربية الاستعمارية في المنطقة أو إضعافهم واستنزافهم.
وفيما تتدفق ثروات الأمة على مصارف الغرب تمويلاً لاستثماراته ولصفقات شراء سلاح عبثية منه، وبينما تنتشر القواعد العسكرية الأميركية في طول العالمين العربي والإسلامي وعرضهما وتتمادى إسرائيل في اغتصاب قلبهما بدعم أميركي، تم اصطناع أعداء وهميين للأمة وتعبئة طاقاتها وتحشيد شبابها لقتالهم، فمن التدخل في الانتخابات في اليونان وإسبانيا وايطاليا لمصلحة دعم الأحزاب اليمينية في وجه الأحزاب اليسارية، إلى إنشاء صناديق سوداء لتمويل الانقلابات العسكرية لمصلحة السي أي ايه حول العالم، إلى تحويل فريضة إسلامية مقدسة هي الجهاد إلى وسيلة لاستهداف الاتحاد السوفييتي في أفغانستان لمصلحة الولايات المتحدة، وكل ذلك بحجة مواجهة الخطر الشيوعي، ومن ثم تم استدعاء الفتنة المذهبية بين المسلمين من كتب التاريخ الصفراء إثر سقوط نظام الشاه الموالي لأميركا عام 1979 وذلك بحجة مواجهة الخطر الإيراني، وتم توريط العراق في حرب شرسة 8 سنوات مع إيران بهدف استنزافهما، ومن ثم تدمير سورية واليمن تحت اللافتة ذاتها، واليوم تجري محاولة لاصطناع عدو جديد إثر التدخل الروسي لمساندة سورية في حربها ضد الإرهاب، حيث يتحدث المثقفون الإسلاميون في وسائل إعلام آل سعود وآل ثاني عن حرب صليبية متناسين أنهم ظلوا خلال السنوات الخمس السابقة من عمر الأزمة السورية يستجدون تدخلاً مباشراً من الناتو الوريث التاريخي للدول التي شنت الحروب الصليبية، بينما يتحدث العلمانيون من إعلاميي مشيخات الخليج عن امبريالية روسية جديدة متجاهلين أنهم يعملون في وسائل إعلام تمولها أنظمة وظيفية تابعة لعائلات نصبتها الامبريالية الغربية (ملوكاً وأمراء)، وخلقت لها كيانات ودولاً بهدف خدمة مصالحها الاستعمارية في المنطقة.
لقد تعرضت بلدان مثل الصين وروسيا خلال تاريخ نضالهما الوطني الطويل لعمليات نهب واستباحة شبيهة بما تعرضت له أمتنا، ومن المفيد لفهم الموقفين الروسي والصيني من الحرب السورية، استذكار حرب الأفيون التي ووجهت بها الصين والمحاولات المستمرة إلى يومنا لإجبارها على التخلي عن حقوقها في بحر الصين وعن جزء من أرضها الوطنية جزيرتي فورموزا (تايوان)، كما أنه من المفيد استحضار عملية النهب التي تعرضت لها روسيا تحت حكم الرئيس الليبرالي الموالي للغرب بوريس يلتسين، يقول المفكر العربي محمد حسنين هيكل: إن عشرة آلاف مصنع تم تفكيكها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي ونقلها لأوروبا، هذا عدا الثروات الطبيعية الروسية التي تم نهبها عبر طبقة رجال الأعمال، الذين أطلق لهم يلتسين العنان ليشكلوا أحد أكبر المافيات في التاريخ، والتي قامت بمهمة نقل تريليونات الدولارات من الثروة الروسية لمصارف الغرب، من هنا تكتسب حكومتا البلدين شرعية التدخل لإيقاف لعبة الثورات المصنعة ولإفشال الاستعانة بالجهاديين الوهابيين، ةخصوصاً أن من مواطني البلدين من يشكل جزءاً مهماً وأساسياً في بنية الإرهاب التي استقدمت لسورية، والتي أصبحت تشكل خطراً على أمن العالم بأسره، ولا يبدو منطقياً تشبيه تدخل البلدين دعماً للدولة الوطنية السورية بتدخلات الحركة الامبريالية الغربية حول العالم والتي تحركها مصالح المجمع الصناعي العسكري الأميركي الاحتكارية كما أشار السيد نصر اللـه في خطابه، فحكومتا الصين وروسيا تكتسبان شرعية التحرك لحماية الأمن القومي لشعبي البلدين من خطر تمادي الغرب في تجاربه الحمقاء التي يدفعه لممارستها نهم اقتصادي لا يعرف حدوداً.
لقد أدى اضطراب النخب السياسية العربية في تحديد العدو والصديق، إلى غياب الهدف وإلى تبديد جهود الأمة وإمكانياتها ما أوصلنا في النهاية إلى حالة الإخفاق السياسي التاريخية الذي يعيشها العرب اليوم، ومن هنا تأتي أهمية خطاب السيد حسن نصر اللـه في لحظة المواجهة الشرسة التي يخوضها حلف المقاومة اليوم والتي تشكل المعركة على العقول جزءاً مهماً منها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن