ثقافة وفن

ثورة دينية

د. نبيل طعمة :

احتاجت أوروبا إلى خمسة عشر قرناً للقيام بثورتها العلمية التي قادها المفكرون والمتنورون وأصحاب علم الجمال، الذين أسسوا لانطلاقة ثورات صناعية وزراعية واجتماعية، أظهرت العلاقة بين الإنسان والحياة، وخلصتها من فساد مديري أمور الدين، ونسفت بها كل المعتقدات الخاطئة، وأعادت الكنيسة إلى أسباب حضورها، لم تمنع الإيمان، إنما وجّهته إلى جوهر الإنسان، وخاطبته، لك أن تعبد ما شئت في جوهرك، وفي الوقت ذاته، عليك أن تشتغل للحياة، للدولة وللإنسان، فهذه الأرض وجدت لتعمل عليها، هناك أماكن مخصصة تدخلها ضمن النظام والانتظام، وها نحن نقترب من منتصف القرن الهجري الخامس عشر، فكيف بنا نجد أنفسنا متعلقين بما مضى، وبشوائب الدين الإسلامي. لم نستطع حتى اللحظة إنجاز ثورة، تخلص المجتمع العربي من هذه الصورة المرعبة لإنسانها أولاً، وللعالم أجمع ثانياً، أجل دعونا نقم بها، فالذي نتحمله ونراه أوصلنا إلى شفير الهاوية، فإما السقوط إلى قاعها، وإما البقاء على حوافها، سارقو الله والناس يجلسون في المعابد، فإذا دخلت إليها لا تعطيهم شيئاً، لأنهم لا يفكرون إلا في طرق السرقة، وأفضل ما تعمله، هو أن تفكر في الحياة أثناء رحلة معيشك، حيث تجد الله فيها، فهو ليس موجوداً في المعابد، إنما في كل الذي يشهد عليك؛ نبات وجماد وحيوان وأهمه الإنسان.
ثورة دينية تحتاج إليها مجتمعاتنا العربية، يدعى إليها مفكرو مجتمعنا، ومن كل الأطياف المكونة له، فالفرصة مواتية جداً للقيام بها، وبما أننا نشهد مآسي الحراك التدميري لكل قيمة تتمتع بها الشخصية العربية، ما أضفى على السطح القاعدة وداعش أدوات الوهابية مع الإخوان المسلمين كل الحركات والتنظيمات الدينية التي حملت مسمى الجهاد الديني، والتي ظهرت بقوة في القرن العشرين، وتطورت مع دخولنا على القرن الحادي والعشرين، مستندة إلى التاريخ الديني السلفي المتشدد والمحارب بفتاوى، لا تتوافق من قريب ولا من بعيد مع حركة التطور العالمي، لذلك تجدنا نحضُّ على العمل السريع من دون توقف ولا هوادة، بغاية القضاء على فكر تكفيري كهذا، ولنسأل من خلال البحث عن كيفية الوصول إلى ذلك، هل تعتقدون أيها السادة أن الآلة العسكرية، ومهما بلغت من قوتها جواً وبراً وبحراً قادرة على إنهاء كل ذلك، نقول من الممكن، لكن القضية التي ندعو إليها، تتمثل في الفكر المحمول والمنتشر بين جل العرب، أينما راحوا وإلى أين ارتحلوا، هذا الفكر المسكون في أمهات كتبنا ومكتباتنا ومدارسنا وجامعاتنا، بين الصغار والكبار، مع الشيوخ والعلماء والمثقفين والأدباء والكتاب، مع الاقتصاديين والساسة، موجودٌ في وسائط إعلامنا التي تضخّه صباح مساء، تراه أبصارنا، يخترق مسامعنا في المساجد من المآذن، في الحواري والشوارع والطرقات، كتب الوهابية المستندة إلى ابن تيمية، وتفسيرات الطبري والبخاري وأحاديث أبي هريرة، وكل ما يخطر على بالكم من أولئك المؤسسين، كل ذلك يدعونا للتفكير الجدي والبحث العميق في هذه المسائل، فالقضاء على هذا الفكر، لا يمكن أن يتمَّ إلا باتخاذ قرارات فكرية جريئة، فالفكر المتشدد لا يتم إنهاؤه كلياً بالأسلحة الفتاكة، ولا بوضع حامليه بالسجون التي تتحول إلى مفارخ، الفكر لا تقتله رصاصة الفكر، يقتله فكر وبناء علميٌّ منطقي ثوري، يثور على الماضي السلبي التكفيري، ولا يكون بالتفكير في القضاء على الدين، إنما ثورة تفجر جوهر الأفكار الملتبسة فيه.
لنناقش بجرأة واقع الشخصية العربية، وما تحمله من مستندات ماضوية، كقضايا الشرف والعار والانتقام والعداوة القبلية، والعشائرية والمذهبية والطائفية، وحرية المرأة وذكورة الرجل المستمدة من تحويل الإله إلى ذكر واستمداد الفردية والسيطرة من فرادته وأحاديته، وبنظرة عامة نرى أن تعاليم الدين واشتقاقاته شكلت المحور الرئيس في بناء فكر عربي متدين، حوله من عبادات إلى عادات، يصلي، يصوم، يحج، يزكي، يأمر وينهى عن الفواحش، وفي الوقت ذاته يرتكب كل أشكال الفساد، فصَّله على مقاسه، خبَّأهُ تحت عباءته، يسوِّغ الخطيئة والسرقة من الدولة سراً، مستنداً إلى أنَ السارق من السارق كالوارث من أبيه، مجتمع عربي أبناؤه يسرق بعضهم بعضاً، يغزون، يقتلون، يدمرون…إلخ. بعضه يدمر ممتلكاته، يتفاخر دائماً بالماضي الذي لم يصنع فيه شيئاً للمستقبل سوى أفكار الدين التي يحملها، وينقلها معه، لم يعرف الإنتاج، آمن بالبيع والشراء، لذلك نراه على استعداد لبيع كل شيء، قالها عالم علماء الزمان العلامة محيي الدين بن عربي: «دينكم ومعبودكم تحت قدمي» ولمّا ارتحل عن الحياة، وحفروا له قبراً، وجدوا كنزاً، ففهموا ما قصد في أحاديثه، بعد أن كفَّروه، مع علمنا المؤكد أهمية المال والثروة، والمشهد العالمي يرينا أهميته وحضوره، من خلال الإبداعات العلمية المستمرة، إلا أنَّ عالمنا العربي لم يؤمن حتى اللحظة، أنَّ العالم تغيَّر، واختلفت قواعد اللعب فيه، الكل غدا في الأمام إلا هذا العربي المقتنع أنَّ العالم سيعود إليه، يطالبهم بحريته من دون قدرته على الحرية، والبحث عن تحرره الجوهري، الذي لا يتمُّ إلا من خلال بناء فكر علمي عملي إنتاجي هذا أولاً. وثانياً طرح قوانين متحضرة، تتوافق مع مقتضيات التعامل المعمول به عالمياً، أين إسهامات العرب في الصناعة، في الزراعة، في الإبداع، والاختراع في المجالات الاجتماعية؟ بمن فقط نتفاخر؟ بالحسب والنسب، بالماضي وأحداثه والنبي وخلفائه وصحابته، ونختلف عليهم ومع الآخر.
نتوق إلى ثورةٍ دينيةٍ تقدم أدبيات جديدة، أساسها الإنسان، وعلاقته مع الإنسان الآخر، تنظم له حدوداً أخلاقية وعلاقات اجتماعية، تؤمن بالإنتاج وزيادته، وبالجمال والحفاظ عليه، تخرجه من ماضيه، تفهمه أنه ما زال يعيش في الوراء، تمنحه فلسفة علاج الأزمات واستشعارها قبل وقوعها، والمؤسف أننا وجدنا أن القائمين على الفكر الديني، قدموا فقه الأزمة، وهل للأزمات فقه وشرائع وعبادات وفقهاء؟ هل يعقل ذلك، ما نحتاجه ثورة دينية حقيقية، تضيء لحياة العربي طريقاً جديداً، تنقذه من كل ما هو فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن